في الأزمة الإقتصادية الكارثيّة ،التي يعيشها عالم الساعة المعولَّم ،أو المُؤمْرَك قسراً ،بمديونيّته الفلكيّة الأمريكيّة ،بمجاعاته ،بأوبئته ، بأعاصيره ـ جناية السياسات اللامسؤولة المستخفّة بالبيئة ـ ،بحروبه المتعددة الوجوه ،والمجرمة ،بأنانيّة رأسماليّةٍ ،وصلت إلى التوحش في سياساتها التدخليّة ،التي ،ومنذ قرابة العقدين ،أصبحت آلة الحرب العدوانية السافرة أداة عربدة أباطرة عصرها ،وبجرعة مفرطة ،ربّما قاتلة ،مع إدارة المحافظين الجدد للبيت البيضاوي ،لا (الأبيض) ،في (واشنطن) ،وخاصة منذ 11/09/2001 :
تفاجئنا المستشارة الألمانية ( آنجيلا ميركل ) ،النصيرة العاتية ،عادةً ،للسياسات الأمريكية ،وإدارة محافظيها الجدد ،وفي جملة قصيرة تستدعي التاريخ الرأسمالي ،تكثِّفه : ولادة ،مساراً ،ومصيراً ـ مآل ، وتحكم عليه بقساوة حكم الإعدام : لقد انتهت(أيام دعه يمرّ ) .
وزير ماليتها الألماني (بيتر شتاين بروك ) ، لا يتردد ،ولا يداور في كلماته ،فقال مامعناه :
من غير الممكن أن يستمر الوضع الإقتصادي العالمي بعد الأزمة الإقتصادية الحالية ، (لا المالية أو النقدية فقط ) ،كما كان في السابق ،فالولايات المتحدة ستفقد مكانتها المركزية في الإقتصاد العالمي ،وإنْ بالتدريج ، وإنَّ ولادة نظام اقتصادي عالمي ،متعدد الأقطاب أصبحت حتميّة ،( يبدو أنّ هذا : "المتعدد الأقطاب " قد أصبح مفتاح ايديولوجية مرحلة جديدة ، يمكن تسميتها : مرحلة مابعد ايديولوجية العولمة الليبرالية المتأمركة ؟!!) ،وأنّه لايمكن أنْ يُقبَل من الولايات المتحدة ألاّ تتحمَّل نتائج الأزمة المالية ( ـ الكارثة )،التي هي أمريكية بالدرجة الأولى ،وبالتالي ،قبولها خسارتها لمكانتها المالية (الإقتصادية) ،كقوة مالية عظمى .
فجأة كارل ماركس ( الألماني كذلك ) ،يجد مكانه في المعمعة ،منتصراً على أعدائه التاريخيين ،الليبراليين ،وعلى يدهم بالذات ،هؤلاء الذين طالما رفضوا النزعات التدخلية لمؤسسة الدولة في آليات السوق ،نجدهم ،وهم عتاة ليبراليّو الحزب الجمهوري ،يقبلون ،صاغرين ،مبدأ تدخليّة الدولة في الإقتصاد، في انعطاف أساسي ،مناقض حديّاً ،بل ودامغ الشهادة على العقم والإفلاس للإيديولوجيات الليبرالية ، قديمها والجديد ،وإلاّ ما معنى خطوتهم (الخيانيّة) ،للنظافة المدَّعاة ،للرأسمالية طاهرة الرأس والذيل ،حسب كل تاريخ مواقفهم ،وايديولوجيات أخلاقياتيهم الدعويَّة ؟ !!
هذا الثالوث الألماني : (ماركس ، ميركل ، شتاين بروك ) ،هل هو محض مصادفة ؟
أبداً ،فإذا كانت الدراسة الماركسيّة في نقد الإقتصاد السياسي ،قد وسمت عصراً وأنظمة ،فإنها لم تكن أبداً في قطيعة مع ثقافة ألمانيّة ،وفلسفة مدرسة ألمانية ،كان الشاب ( كارل ماركس) أحد تلامذة نموذجها الهيغلي ،قبل أنْ يقلب الهرم ،ليضعه على قاعدته الماديّة ، كما رأى ،لم ينكره ،لم يهدمه ، وإنّما اجتهد في توظيفه ،فكان استمراراً ،بقراءة أخرى ،للثقافة المعرفية الألمانيّة ،بل لروح أمّة تعاق بلورة كيانيتها ، وولادة هويتها القوميّة الشرعيّة من رحم التاريخ (قومية ابنة للتاريخ )، بآليات سوق تفرض بديلاً لها أمّة من صناعة السوق الرأسمالية (أمّة سوقية ) ،بهوية (قوميّة سوقيّة )،ولعلّه هنا يجد الموقف الماركسي ،تفسيره البسيكولوجي الحاطّ ،في نظرته إلى القوميّة وإيديولجيتها ،باعتبارها مجرّد بناءٍ ذهنيّ فوقي ،لمرحلة تطور برجوازي انتقالي ،زائل وعابر في مسار النمو الرأسمالي ،العابر هو أيضاً ،وبالتالي فالهوية القومية ،والدولة ـ الأمّة ،إلى زوال لمصلحة الإشتراكية المنتصرة حتماً ،في بعدها الشيوعي الأممي الآتي لا محالة .
يوتوبيا ،وموقف ايديولوجي عقيديّ وإيمانيّ بامتياز ،نابع من (أنا جمعية) ،لم تأت من فراغ ،رغم كل الدعاوى العلميّة ،التي أصرّ ،ويصرّ الماركسيون ،على صبغ الماركسيّة بطابعها الأوحد ،والذي يجعل من الماركسيّة ،أداة قراءة قاصرة ،وميكانيكية ،لتطور المجتمعات البشرية ،لا تختلف في شيء عن رصد ظاهرة تحول الماء إلى بخار عند تسخينه إلى الدرجة 100 المئوية ،وهذا لعمري تشييء للإنسان ،وظلم للماركسيّة ذاتها ، كونها نتاج فكر إنساني ،وفلسفة تراكم معرفي ـ معارفي ،ومحاولة تفسير وجودي : ولادة ،وتاريخاً ،وحاضراً ،ومستقبلاً مسار ،وكينونة مآل ،لهذا الكائن ـ الإنسان .
من هذه الزاوية ،لا أجدني مجحفاً في القول :
إنّ الماركسية نابعة من (أنا جمعية) ـ (أنا أمّة تتبلور) في لحظة (إعاقة ـ أزمة ) ،لولادة هوية وجودها المشروع : (قومية تاريخية) لأمة كاملة الخلقة ،ولست في موقفي هذا ،بمنتصر لـ ( فرويد أو يونغ ) أبداً ، بل لعله التفسير الممكن لفهم بسيكولوجية المفكر الفيلسوف (كارل ماركس) ،أم أنَّ للبافلوفيين رأيّاً آخر ،لا زال يصرُّ على حصر رؤيتها في خانة المنعكسات المشروطة ،مع تجربة الكلب الشهيرة ،دون كبير اكتراث بالفروقات ، حتى البيولوجية ،بين الأنواع ،فكيف بفروقات الذكاء والنتاج الفكري ؟!!
بل أزيد فأقول : إنَّ (أوديب ـ كارل ماركس) ،لم يتردد في محاولة قتل الوالد الكلاسيكيّة ، لإشباع تثبته الليبيدي الطفلي ،قفزاً على العجز ،وفرضاً لوجودٍ لم يتح له فرصة النضوج العاطفي ـ الإنفعالي ،وفق مسار طبيعي بلا إحباطٍ أو قمع ،ليجد التعبير ""السلبي البنّاء""سبيلاً بديلاً ،ومحاولة تحقيق ذات ،بل حتى فرضها برغبويّة متطرّفة ،هكذا وجد الكائن الأوديبي نفسه ،في شخصية كارل ماركس الغاضبة ،المقموعة ،والمهزومة في تعبيرها الليبيدي القاصر اللامشبع ،كياناً عدوانيّاً تعويضيّاً ،في موقف تصفية حساب ،مع الوالد ـ الإعاقة ،الذي انهزم في معركة إثبات كيانه الأبوي المسؤول ، على الأقل ،في مسؤوليّتة عن عجزه الوجودي :أن يكوّن ،ويكون الراعي المجسّد للمثل الإيجابي في تكوين كيان الشخصية الناضجة ،عاطفيّاً ـ انفعاليّاً ،لـ (كارل ماركس) ،بدل التخلي عنها ،في مرحلتها التطورية الليبيدية الباكرة ،في يُتمٍ عاطفيٍّ قاسٍ ، يجعل من اليتيم جفافاً إحساسياً في الأعماق ،دكتاتوراً كلّيّ القدرة ،إلهاً بلا تحديد ،دعاويّاً في التّطلُّب ،و متطرفاً في السلوك ،في الحكم والتنفيذ ،
من هنا نجد (أوديب ـ كارل ماركس) الثأري ، القاتل ، ينقض على هوية الأب ( القومية) ،مسفِّهاً ، حاطّاً ،مؤكّداً على :
ــ مرحليتها : مرحلة اتهامها ،و تبيان تابعيتها السوقية البرجوازية الرأسمالية .
ــ حتميّة زوالها : لكونها ترجمة لوعيٍّ فوقي ،تابع لواقع مادي متغيّر،فهي زوال متواصل ، وموت مستمر،وصولاً إلى الموت الأخير ،الأكيد والنهائي (المنتهى الأممي المحتوم) المُعلِن :موت الأب ـ المعاق ،في تنفيذِ قتل إرادويّ له ،بإعدام هويته المدّعاة ،بل ودفنه الماديّ كأمّة، حتى بلا مراسم التشييع ، فلا جنازة للخطيئة ،ولا كرامة لنتاجٍ زنيويٍّ عابر.
موقف يتكرر في التاريخ الألماني ،وبعد قرابة عقود ثمانية تقريباً ،مع الظاهرة النازيّة ،وهنا لن أقارب ،حتى مجرد مقاربة ،الحرب الإمبريالية الثانية ،والمعروفة بـ (الحرب العالمية الثانية ) غربيّاً ، و بـ (الحرب الوطنية العظمى) سوفتيّاً ،بل سأرصد (أوديب ـ ادولف هتلر) ،الذي لن يقل شراسة وانتقامية ،عن (أوديب ـ كارل ماركس) ،بل ويزيد عليه دموية فعليّة في حربٍ طاحنة ،غيّرت الخريطة الجيوبوليتيكية للعالم .
ففي حين بقيت عند الثاني حبيسة التفكير ،وما أنتجه من فكرٍ ايديولوجي ،حمّل الزمن مسؤولية تنفيذ إعدام الأب ـ الإعاقة ، نجد عند (هتلر) ،أنَّ عدم الإشباع الليبيدي ،المتثبت أوديبياً ،وما تبعه ونتج عنه من قصورٍ انفعاليٍّ ـ عاطفيّ ،قد أخذ منحىً ""ايجابيّاً هدَّام ""، ويا للمصادفة ـ وهي ليست مصادفة بالتأكيد ـ في تواجه الإتجاهين الأوديبيين، لذات الأوديب الألماني ،باسمين حركيين :( الشيوعية والنّازية )،لا في ثنائيّة كلاسيكية ، بل في ثنائية صراعيّة جدليّة ،بكل جملتها الدينامية ،فـ (هتلر) والإيديولوجيا النازية ـ (هتلر ليس النازي الوحيد) ـ وأخذاً بالمقولة النيتشويّة ـ التعريف ،المُمجِّدة للقوَّة ، وخاصة الذاتيّة : (القويُّ قويٌّ بنفسه) ،ترجما في أفكارهما ،وفي السلوك ،لا قتل الأب ـ الإعاقة فقط ، بل محاكمته ،ومحاسبته ، وتعذيبه ، قبل الإجهاز عليه ،هكذا تترجمت الإيجابيّة الهدّامة :
فمثلُ (الوالد ـ الإعاقة) ،العاجز المهزوم ،قوبل بالمثل القوي المنتصر (الإبن الأوديبي الرافض المتمرد)،الذي لم يُسفِّه دوره فقط ، بل ذهب إلى تعليمه كيف يكون الدّور ،وكيف يُلعَبُ ،وفي تقريظٍ احتقاري ،باستكبار متجبِرٍ منتقم ،لعدم قدرته على بلورة هويته أو صيانتها ،اندفعت الإيديولوجيا النّازية إلى أقصى ما يمكن أنْ يصله تفكير مرضي منحرف ، بتقديم مفهوم في القومية ، شوفينيٍّ ، عنصريّ ، وحتى فجٍّ كاريكاتوري ،بلا احتراف ،في اندفاعة هوجاء ،للمتعطّش في إشباعه الليبيدي ،مستنكراً على الأب المدان ،لا عجزه الإرادوي المشين فقط ،ولاهزيمته الوجودية المذلَّة فقط ، بل وجوده ـ الأساس عديم الجدوى بحضوره ،والعبء في استحضاره ،وبالتالي فالتخلص منه ،مبرر أخلاقياً ،ولعله في ""التلفيفة المخيّة تلك "" يكمن الإجرام النازي الذي استهدف المعاقين ،وخاصة العقليين منهم ،مما تعافه وتستنكره النفوس السويّة ، وتحاربه العقول القويمة .
ولنعد من محاولة التحليل النفسي لأعلام ،في المديح والمذمّة ،في محكامتهم ،أخلاقياً أوقانونياً ، في صلاحيتنا أو عدمها . ومن محاولة الرؤية المراجِعة ـ الإسترجاعية لسيرة أشخاص ،وإيديولوجيات ،وحوادث كبرى وحروب زلازل ، ولنعد إلى طرح السؤال :
هذا الثالوث الألماني : (ماركس ، ميركل ، شتاين بروك ) ،هل هو محض مصادفة ؟ والذي لم أتردد بإجابة نفيٍ فورية لمحضيّة المصادفة ، معلِّلاً بما استطعتُه من استعانة بمدارس علم نفس متداولة ،وطبٍّ نفسي ممارَس ، لأصل إلى ردٍّ ينفي المصادفة ، ويقرر الظاهرة ، فالمصادفة يتيمة ، والظاهرة تكرار ، وإن بتمظهرات مختلفة ، لكنّها في جوهرها واحدة ،دينامية ،فاعلة في الظرف المكاني والزماني ،مستجيبة لمتطلباته ، لا منفعلة بها فقط ، ولئن كان موقف المستشارة (ميركل) يمكن رده إلى شبابها الشيوعي ،كألمانيّة شرقيّة سابقة ، مع قبول مرجعيٍّ تعسّفيٍّ ، فموقف وزير ماليتها ،الألماني الغربي السابق ،الذي لم يعش تاريخ الحزب الشيوعي ،ولا قيادة الرفاق الحمر ، إلى أيّة مرجعيّة تحليلية تاريخيّة ،يمكنُ رده ؟!! هذا أولاً .
وثانياً : كل العالم متأذٍّ من السياسة الإقتصادية الأمريكية ، فلماذا كان للصوت الألماني نبرته الإحتجاجية خارج السرب المدجّن ، ومفردته الإتهاميّة الواضحة ،بلا تردد ولا استحياء ،في مطالبتة المسؤول ( ـ الأمريكي ـ ) عن الكارثة :
أن يتحمّل مسؤوليته ، بل وأن يقبل بتقويض أسس أحادية قيادته ، و تسلُّط مركزيتة الدكتاتورية على القرار الإقتصادي الدولي .
أهو (الأنا الألماني الجمعيّة ) ؟ أم هو ( أوديب الألماني ) المقهورالغاضب ، يقتل اباه مرّة أخرى ؟ !! على الأقل بالحد الممكن .
داسك سيريا