الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

آردوغان ظاهرة صوتيّة بامتياز


من قلم : د. منير وسوف


حين أعود إلى بواكير مقالاتي السابقة ، التي تطرّقتُ فيها للعلاقات السوريّة ـ التركيّة ، وارتباطاً عضويّاً حتميّ الحصول من خلالها ، العلاقات العربيّة ـ التركيّة ، المنشورة بعنوان : ( لعلاقات السورية ـ التركية والأمن القومي العربي ) ، لم يدر بخلدي ، - أعترف - ، أنّ رجلّ الدّولة التركيّ السيّد ( رجب طيّب آردوغان ) وفريقه المؤسس لحزب ( العدالة والتنمية ) ، المتمرّد على أبيه الرّوحي المهندس ( نجم الدّين آرباكان ) زعيم حزب ( الفضيلة ) ، الأمّ المرضع والحاضنة لذلك الفريق حتى وقوفه على قدميه ، بل ولم آخذ على محمل الصدقيّة اتّهامات السيّد ( ارباكان ) الثقيلة العيار للسيّد ( آردوغان ) وفريقه ، ووضعتها ـ بموضوعيّة منطق التحليل المحايد ـ في خانة اتّهامات نجمٍ آفل ، لا يريد تصديق أنّ ( العيال كبرت ) ومن حقّها تبوّء مكانها المؤهلة لملئه ، وأنّ ذلك هو منطق الحياة دون اللجوء المبالغ فيه غالباً إلى علوم السوسيولوجيا و ( نظريّة صراع الأجيال ) الأشهر ، أو إلى (سيغموند فرويد ) وميدان التحليل النفسي و ( نظريّة قتل الأب ) للزواج بالأمّ ـ السلطة هنا ـ أو أكثر من ذلك ، لم أجد لميكانيزمات العصاب لزوماً ، ولا لبعض تداعيات مرض ( آلزهايمر) مقاماً في شكوى السيّد ( ارباكان ) من تلامذته العاقّين ، مع أنّ شكواه تلك تجاوزت أحياناً حدّ الزَّوَرِ ، وجاورت بارانويا موَّصّفة .

أعود لتلك الأيّام ـ بضع سنوات لا أكثر ـ لا لأجلد الذّات بعقدة الذنْب أبداً ، فلست مدّعيّاً " كشف الغطاء " ولا " علم الغيب " ـ استغفرعالمه ـ ولكنْ لممارسة " نقد ذات " ذهبت أكثر من اللازم في تفاؤلها ، ربّما لكبير أحلام جيلٍ قوميٍّ عربيٍّ مجهَضة ـ وأنا من شاربي ، حتى التخمة ، مرارة خيبته ـ فلقد مثّل لي السيّد ( آردوغان ) نموذج القائد العالم ـ ثالثي ، الآتي ديمقراطيّاً ، بصوت الشعب وصندوق الإقتراع ، على رأس حزب حقق أغلبيّته ، في دولة علمانيّة الدستور والمؤسسة ، وهو الحزب ذو التوجهات الإسلاميّة ، بعد فترة حرمانٍ سياسيٍّ ومروراً بالسجن وملابساته ، لم أستطع على تلك القاعدة عقد مقارنة بينه وبين الحاكم العربيّ في كلّ جمهوريّاته ، على بسيط استثناء ، ومطلقاً مع ذلك الحاكم في الممالك العربيّة ، والمشيخات ـ إماراتها ، وكم عقدت المقارنة بينه وذاك الكونغوليّ الشهيد (بتريس لومومبا ) ، وكرهت المقارنة للمصيرـ الإغتيال الذي انتهى إليه الأخير !!!، ومع أنّ الزمن غير الزمن ، فإعدام ( عدنان مندريس ) بعد محاكمة شكليّة تمّ في تركيّا لا غيرها منذ نصف قرنٍ تقريباً .


لم يخطر ببالي أنّ السيد ( آردوغان ) هذا ، كان رغبويّة تسكنني ، دعمها ـ خاصّة ـ موقف انسحابه ـ الخبطة ،المدويّ ميديويّاً ، من مؤتمر ( دافوس ) ، بعد شبه مشادّة ، ـ قيل ـ !!! مع الصهيونيّ ( شيمون بيرس ) ، وعدم ارتكاس السيّد ( عمرو موسى ) : أمين عام ( جامعة الدول العربيّة ) ، بل ابتلاعه الإهانه ، بتنفيذ أمر أمين عام الأمم المتحدة ،السيّد ( بان كي مون ) ، الذي أمره ـ بلا أيّة لياقة ـ بالعودة إلى مكانه ، حين همّ بالوقوف لمصافحة السيد ( آردوغان ) المنسحب احتجاجاً لعدم إعطائه " الميكروفون " ، ـ قيل ـ ليردّ على ادعاءآت الصهيوني ( بيرس ) وافتراءآته ، فعاد أمين عام الجامعة إلى مقعده صاغراً حسيرا ،!!!

نعم ، لم يخطر ببالي أنّ السيد ( آردوغان ) هذا سيصبح نسخة سوء الحاكمٍ العربيّ المتفرّغ لمشاكل " الزاروب العربي " وتفاهاته ، وأنّه سيجعل من تركيّا أحد أنظمة "" النظام الرسميّ العربيّ السايكس ـ بيكويّ ـ الصهيونيّ أو المتصهيّن "" ، وأنّه سيشغل ثمين وقته !!! بالإنضمام لمحورٍ عربيٍّ ، كان الأجدر بـ " رجل الدولة " التركيّ المنتخب ديمقراطيّاً أنّ لا ينسجم مع ذهنيّات سلطاته المنادية بتطبيق ديمقراطيّة ـ هنا أو هناك ولكن بعيداً عن عروشهم ـ ، ديمقراطيّة لايميّزون فيها ـ بعراقة ديمقراطيتهم المجرّبة !! ـ بين الهدف والسبيل ، وإنْ كان فعل حلولها على مضاربهم هدفاً وتأثيراً ـ وسوف تصل ـ سيحاكي ذاك الذي للمبيدات الحشرية على أسراب البعوض ، بل أكثر من ذلك ، كان الأجدر به أكثر، وهو الجار القادم من مورد آخر ، وتجربة مختلفة أنْ يلعب دور رجل الحوار لا المَحاوِر، التقريب لا الفتنة ، وخاصة دور الإسلام الجامع بتسامحه واستشرافيّتة المستقبل الإنسانيّ ، لا الطّائفيّ الظلاميّ المفرّق بين المسلمين ، المنهك لهم ، الصالب تطلعاتهم خارج كلّ ريادة إنسانيّة ، أو مؤثّر فعل في صياغة التاريخ .


الظاهرة الصوتيّة الأردغانيّة ، يمكن عدّها ماركة مسجلة ببراءة اختراع ـ تجديد، فالشعبويّة التي تميّز كل ظاهرة صوتيّة ، تعدّت عند السيد ( آردوغان ) إلى قرارات وفرمانات ، تخرج من أفران هوسٍ نوستالجيٍّ ماضويّ يبعث على الرثاء ، وفوق ذلك فكلّها خلبيّة الفعل ، اللهمّ إلاّ ماتجلبه من أذيّة على الإنسان التركيّ ، نكالاً بما اقترفت يداه المنتخبة للسيّد زعيم حزب العدالة والتنمية وشلّة فريقه الميامين ، فلنستعرض لتلك لظاهرة الصوتيّة الأردغانيّة أهم محطّاتها ، للحكم على موضوعيّة ما أقول ، وسأبدأ ، احتراماً للسرديّة ـ تأريخاً ـ في سياقها الزمنيّ :

ــ المحطّة الصهيونيّة :

لن أعود إلى انسحاب السيّد ( آردوغان ) من مؤتمر ( دافوس ) ، وما تبعها من إهانةٍ لسيادة تركيّا وكبريائها ، بالمعاملة المهينة والمذلّة للسفير التركيّ لدى الكيان الصهيونيّ ، المستدعى من وزارة الخارجيّة الصهيونيّة ، وعلى يد موظّفٍ من الدّرجة الثانيّة ، وهو السفير الممثل للدولة التركيّة !!! وما حرّك ذلك الموقف المخزي من مشاعر، تراوحت بين الغضب والشفقة والإزدراء ، بل سأمضي مباشرة إلى مجزرة الجيش الصهيوني المنقضّ بوحشيّة الضواري ، في سلوكيّة قراصنة ، تختصر ذهنيّة ذلك الكيان المتفلّت ـ المحميّ أمريكيّاً ـ ، والخارج على كلّ شرعية قانونيّة مرعيّة ، أوعرفٍ معمولٍ به باتّفاق احترامه ، مع سبق تخطيطٍ وتصميمٍ معلنين ، على ( اسطول الحريّة ) ، المتوجه إلى (غزّة هاشم ) ، أكبرسجنٍ في تاريخ العالم ، لفكّ حصارها ، أو تحدّيه بأضعف الإيمان ، مع عدم نسيان مشاركة بعض أعضاء الحلف الأطلسي في الحصار الظالم ، بذريعة مراقبة ( تهريب الأسلحة لحماس عبر البحر!! ) ، وتركيّا ـ ويا للمفارقة ـ دولة أطلسيّة !!! فماذا فعل السيّد ( آردوغان ) فوق ظاهرته الصوتيّة ، وتهديداته الشعبويّة الجوفاء الإستهلاكيّة ؟ !! لقد قدّم لائحة مطالب :

آ ــ طالب ( إسرائيل ) بالإعتذار ، ورفضت ( إسرائيل ) ، رغم شكليّة الطلب ، وهدفه الذي لا يعدو حفظ الباقي من ماء الوجه للسيّد ( آردوغان ) ، المزبِد المرعِد في بعض تمظهر ظاهرته الصوتيّة !!

ب ــ التعويض على ذوي الضحايا الأتراك على المركب ( آفي مرمرة ) المهاجَم ـ المقرصَن إلى ميناء أشدود !!! وهنا تبلغ المهزلة صارخ فضيحتها ، فالكبرياء التركيّ ، والشرف التركيّ ، والمواطن التركيّ الذي جاء بـ ( آردوغان ) انتخاباً ، كلّه يضعه "" الزعيم "" النيوـ عثمانيّ ، سليل الفاتحين !!! في بازار المساومة والتسليع والتسعير، والمطالبة بقبض الثمن !!! ومع تقزّم الهدف وتافه قيمته ، فقد رفضته ( إسرائيل ) !!!

ج ــ لجأ إلى سلوكٍ صبيانيّ بإزعاج المسافرين الصهاينة في مطار ( اسطمبول ) ، ولمرّة يتيمة ، حين رأى العين الحمراء الصهيوـ أمريكيّة ، فأكمل السلوك الصبيانيّ بالتنصّل من المسؤوليّة ، وتحميلها لسلوكيّات موظّفين ، مما لايقبله عقل ،ولا تقرّه أخلاق ، صفة أخرى من صفات الظاهرة الآردوغانيّة ।


د ــ اتخذ قراراً بوقف صيانة بعض طائرات سلاح الجو التركيّ في ( إسرائيل ) ، وتعليق ـ لا إلغاء ـ المناورات المشتركة ، والأكثر إيلاماً ، ماساقه من تبريرٍــ تعليل لتوقيف بعض المستوردات التجاريّة من ( إسرائيل ) ، بوصفه الأخيرة أنّ لا أخلاقيّة تجاريّة لديها لأنها لا تحترم المواعيد !!! ، وكأنها في بقيّة ممارساتها مثال كريم الأخلاق وتمامها !!! نعم هكذا تفتقت عبقريّة القائد ـ الأمل ، لا فضّ فوه ، وتلك مزيّة أخرى لكلّ ظاهرة صوتيّة ، عجزها عن شموليّة الرؤية ، وتعلّقها بتلابيب تفصيل إجرائيٍّ تافه ।


ج ــ خفّض مستوى التمثيل الدبلوماسي ، وهو إجراء شكليّ ، ومع ذلك ربطه بشكليّة شرطيّة مضحكة، من مستوى الإعتذار المهزلة . ولإلقاء مزيد من إيضاحٍ على تلك المحطة الأولى ، فقد شاركت تركيّا ، مع أطلسيي أوروبا ، في تعطيل وإفشال قافلة الحرية ( 2 ) ، هذا العام ، مما يبرز جانب النفاق والتقيّة السياسيّة دعائم بنيويّة في الظاهرة الآردوغانيّة الصوتيّة ، وزاد في طمبورها نغماً ، موافقة ( آردوغان ) على نشر مشروع الدرع الصاروخيّة الأمريكيّة في تركيّا ، والكلّ يعلم أنّ في رأس أهدافها حماية ( إسرائيل ) !!! .

ــ المحطّة القبرصيّة :

عارض السيّد ( آردوغان ) ووزير خارجيته ـ السيّد ( أحمد داوود أوغلو ، أو صفر كيسنجر التركي ) انضمام ( قبرص ـ قسمها اليوناني) إلى الإتحاد الأوروبي ، ممثلة لقبرص بقسميها ، فرفض وتوعّد وهدد وإلخ .... ، والنتيجة ؟ دخلت قبرص الإتحاد الأوروبي ، وبقي السيّد ( آردوغان ) يتسوّل لتركيّا القبول ، ويجرجرها على أعتاب أبوابه الموصدة !!! وأخيراً ـ وليس آخراً ـ إرساله " الإعلاني ـ الإعلاميّ " لسفينةٍ تركيّة إلى المياه القبرصيّة ( قسم الجمهوريّة التركيّة ) !! ، وهي رحلة عاديّة تجري كل ساعة بين تركيّا والقسم التركيّ من قبرص ، لكنّ السيّد ( آردوغان ) ، وبمناسبة إعلان قبرص عن عزمها البدء بالتنقيب عن الغاز المكتشف قرب شواطئها ، لم يجد في جعبة ظاهرته الآردوغانيّة الصوتيّة إلا تحويل رحلةٍ روتينيّةٍ لسفينةٍ إلى طلائع اسطول غزوّ لن يدع ولنْ يذر !! مع أنّه وللتاريخ ـ سواء كنّا مع أو ضدّ ـ حين غزا سلفه ( بولنت أجاويد ـ حزب الشعب الجمهوري ) الجزيرة القبرصيّة واحتلّ جزءها التركيّ في 20 حزيران/يونيو 1974 رداً على قرار الحكومة العسكرية اليونانيّة بضم قبرص ، فقد تم ذلك بهدوء فاجأ الرأي العام الذي استيقظ على السفن التركيّة في ميناء (ليماسول) !! ولكنّ السيّد ( بولنت أجاويد ) كان رجل قرار ينفذ لا شخصيّة تحكمها عقدة النجويميّة ، وخاصة لم يكن ـ بالبرهان على الأرض ـ ظاهرة صوتيّة !!

3 ــ المحطّة الأطلسيّة :

هنا يُظهِّر السيّد ( آردوغان ) ظاهرته الصوتيّة ، بكل تناقضات الظاهرة ، فهو الباحث عن تموضعٍ جيوـ استراتيجيٍّ جديدٍ في الإقليم ـ ولسنوات بدا !! ـ مستقلٍ بعلاقته مع سوريّة وإيران المعاديتان للسياسات الأطلسيّة ، وخاصّة للمخططات الصهيوـ أمريكيّة ، ليعود إلى حظيرته الأطلسيّة بعد دروس تأديبيّة غربيّة ، ليس أخرها إفشاله فيما سعى إليه ـ مبادراً !! ـ مع البرازيل في التصدّي للملف النووي الإيراني وإشكاليّته ، ليأتي أخيراً ( قانون إدانة نكران المجازر الأرمنيّة الفرنسيّ ) ، مكافأة مستحّقة لخنوعه الأطلسيّ بنشر رادارات ما يسمّى ( مبادرة الدرع الصاروخيّة الأمريكيّة ) على التراب التركيّ ، ليكشف السيّد ( آردوغان ) عارياً لايملك إلّا ظاهرته الصوتيّة التي أضافت إلى ترسانتها شعارات ( الإسلاموفوبيا ) ، وصليبّة الساركوزيّة ، والتذكير بمجازر المستعمر الفرنسيّ في الجزائر ـ وكلّ ذلك صحيح ـ بشعبويّة لا يحسد عليها ، فعوضاً عن شعبوية ادّعائه الدفاع عن الإسلام ـ المفترى عليه حقاً ـ وتنصيبه لنفسه قيّماً مدافعاً عن بلاد المسلمين ـ التي يكتشف فجأةً مظلوميّتها ـ أما كان الأجدر به أن يتصرّف كرجل دولة مسؤول ، يتحرّك مؤسساتيّاً ، فيدعو البرلمان التركيّ لاجتماع يناقش المجازر التاريخيّة للمستعمر الفرنسي ـ وهي كثيرة ، تاريخياً ومعاصرة ـ فيردّ على قانونٍ بقانون ؟ !!! بدل التصرف بلغة المتظاهر المحتجّ الصّارخ ضدّ التّحيّز واللاعدالة ، المشروعة للمواطن ، ولكنْ المجلجلة الإدانة للسيّد رئيس الوزراء بحكم مسؤوليّاته ، والأدق رقبة ، أنها تكشف مقدارتدني ثقة مسؤول مثله ببلده ومؤسساتها واستقلال قرارها ، ومقدار تحكّم عقدة تفوّق الرجل الأبيض بسلوكه الذي يظهره ـ كما تصرّف ـ عاجزاً متشكيّاً بارانوياويّاً مضطهدا !!! لكنّها ظاهرة الصوتيّة الحابسة للسيّد ( آردوغان ) في خلّبيّة ثأثيراتها ، تتركه هكذا مهرّجاً بجمهور ملّ دوراً فقد حتى القدرة على الإضحاك ، إلّا أصفره المشفق أو المزدري !!!

أما في محطتي الآردوغانيّة ، تركيّا داخليّاً ، وسوريّاً جواريّاً ، فالسيّد ( آردوغان ) يتفوّق على نفسه ويصبح ظاهرة فوق ـ صوتيّة ، وذلك ماسيكونه موضوع المقال القادم ذي الصلة


ليست هناك تعليقات: