بين هادئ القراءة السياسيّة ، وتعبويّة الحرب النفسيّة الملازمة لآنيّة الحدث السوري ، الصاخب ميديويّاً بلا سابقة مماثلة ، تصبح مسؤوليّة الكتابة عناقاً لحدِّ السكين ، ومع ذلك ففي الجزء الثاني هذا ، يستكمل المقال رؤيوية استعراضه للباقي من الحدود السورية ، مع الجار التركيّ في الشمال ، والشقيقان ، العراقي في الشرق ، واللبنانيّ في الغرب ، بعد أن استعرض الجزء الأوّل شواطئ المتوسط السوريّة ( ما عدا شواطئ لواء الإسكندرون المحتلّ من قبل تركيّا منذ عام 1939 ، قبل تاريخ الإستقلال السوري بستة أعوامٍ ونيِّف ) ، وخطّ المواجهة مع الكيان الصهيوني في الجولان المحتلّ ، والحدود " السايكس ــ بيكويّة " ( الأردنيّة ــ السورية ) .
ثالثاً ــ الحدود ( السوريّة ــ العراقيّة ) : وهي أيضاً حدود تسوويّة بين الإنتدابين ، الفرنسي على سورية ، والبريطاني على العراق ، آخذة في اعتبارها جملة معطيات ومصالح ، ليس أقلّها نفط ( الموصل ) المكتشف ـ بريطانيّاً ـ أيّامها ، لا كمصدر طاقة وتطوير صناعيٍّ فقط ، بل كسلعة استراتيجيّة حاسمة الدّور في إدارة عجلات الحروب ، وخاصة تحرّكات أساطيلها في أعالي البحار ، بعد تراجع عصر الطاقة الصلبة ( الفحم الحجري ) لأسباب متعددة من بينها الصعوبات اللوجستيّة من تخزين ونقل و .... ، ومحدوديّة السرعة التي تسمح بها طاقته للسفن المعتمدة عليه .... إلخ ، والذي لعبت شركات النفط دورها الحاسم في لفت نظرالسياسات الإمبراطويّة للحكومة البريطانيّة وقراراتها ، ومنها ما يتعلّق بموضوعنا من ضمّ ( الموصل ) إلى منطقة الإنتداب البريطانيّ في بلاد الرّافدين ، مبادلة مع ( لواء دير الزّور ) الذي أصبح جزءاً من بلاد الشّام الموضوع تحت الإنتداب الفرنسيّ ، بتوافق ورضى الإنتدابين ، تطبيقاً للمشؤومة اتفاقيّة ( سايكس ـ بيكو ) الأشهر وملحقات تنفيذها ، وككلّ الحدود التي فرضتها مصالح الغرب في وطننا العربيّ لم تُعِر اهتماماً للتواصل السكانيّ عبرها ، إمّا لقصور المعيار الأوروبيّ في ترسيم الحدود ، وهذا احتمال !!
أو للجهل بالعمق التّاريخيّ للمنطقة والتعامل معها كتشكلات "" قبل ــ أمّة "" وكإفرزاتٍ ركود مجتمعيّ من ظلاميّة قرون أربعة من تسلطّ العثمانيّ المتخلِّف ، وهو الأرجح ، وهنا نجد الحالة الديمغرافيّة ذاتها على الحدود الأردنيّة ــ السورية ، مع بعض خصوصيّات مستحدثةٍ من نتائج تطوّر وضع سياسيٍّ ، سوريٍّ ـ عراقيٍّ معقّد ، منذ قيام عهد الحكم الهاشميّ في بغداد وإلى يومنا ، لكنْ يبقى الأكثر حسماً في تلك الخصوصيات هو ماطرأ عليها " نوعيّاً " ، وأقرّته الوقائع " موضوعيّاً " منذ الغزو الأمريكيّ للعراق واحتلاله عام 2003 وهو ما سيتوقف عنده للصلة المباشرة بموضوع المقال :
آ ــ بيّنت أهداف الغزو الأمريكي للعراق أنّ احتلال ( بغداد ) هو مقدمة لاحتلال ( دمشق ) ، وأنّ احتلال ( بغداد ) لن يصبح ناجزاً مستقراً إلا بوضع ( دمشق ) في عين عاصفة الإستهداف الأمريكي وحلفائه "" بنود ورقة كولن باول ــ الإنذار خلال محادثاته في دمشق بعد إسقاط بغداد واحتلال العراق "" .
ب ــ ترسّخ اليقينيّة في ( دمشق ) ، أنّ خطّ الدفاع الأوّل عنها أمام الهجمة الأمريكيّة الشرسة ، بما يترسم عليه ويسمه ، من نقطة بداية حسم المستقبل " الجيوــ استراتيجيّ " للمنطقة ، إنّما يتأسس في ( بغداد ) المقاومة ، المحتضَنة ، لا عربيّاً تحرريّاً فقط ، بل وإقليميّاً مشارِكاً أيضاً ، للجم اندفاع المشروع العدوانيّ الأمريكيّ في مرحلته الأولى ، وهزيمته في نهاية المطاف .
ج ــ تأكد الارتباط والترابط بين المشروع الغربيّ ، والأمريكيّ بالخاصّة ، مع امتداده الصهيوني لإنجاز ( الشرق الأوسط الجديد ) ، الطبعة المنقّحة المعولمة للمشروع فوق ــ الإمبرياليّ لإدخال منطقتنا ، ونهائيّاً كما خططوا !!! ، إلى بيت الطاعة الأمريكيّ وإغلاق الباب عليها بقفلٍ صهيونيٍّ محكم .
مما سبق أصبحت الحدود السوريّة ــ العراقيّة تحت مجهر الرقابة والمراقبة ، والحسابات الأمنيّة قبل العسكريّة ، السوريّة قبل الأمريكيّة ، مما جعل اجتياز تلك الحدود ما كان ليمكن إلا إرادويّاً ، بتعاونٍ سوريٍّ رسميٍّ ، غير معلنٍ ، مع بيئةٍ حاضنةٍ مقاوِمة ، تلك المراقبة الأمنيّة النّامية من الجانب السوريّ ، يضاف إليها إرادة سياسيّة عراقيّة ملائمة ، ومتعاونة حتى قبل إنجاز الإنسحاب الأمريكيّ أو اندحاره عن ( بغداد ) ، يجعل من تسلل ( المقاتلين الإسلامويين ) وعنفهم عبر الحدود مسألة فيها نظر ، وتندرج تسريباتها المتكررة في إطار لغة التهويل ، والحرب النفسيّة المدروسة ، والمسعّرة التوظيف والدور في تنفيذ السياسات التدخليّة في الأزمة السّوريّة ، فإذا أضفنا معطيات معادلات السياسات الداخليّة في العراق وأطرافها ، وارتباطاتها الإقليميّة وحساباتها ، نجد أنّ لحظة انجاز الإنسحاب الأمريكي من العراق ، حتى نهاية العام ، تملي على تلك المعادلات إضافتها الوازنة ، وبالتالي يدخل الجميع ، بمن فيهم ( المقاتلون الإسلامويون ) ، وربّما بعنف استنفاريّ ، إلى بيادر محصولها ، وإذاً فهؤلاء ، إنْ كان وجودهم مؤثر ، فهم مشغولون بساحتهم ، وفيها من يتكفّل بهم ، مما يقزّم خطرهم على الساحة السوريّة إلى بُعدٍ نقطيٍّ لا منظور أو بالكاد ، وأمّا البيانات ووسائل الميديا بيدهم ، وصفحات تويتر وفايسبوكهم ، فلا تزيد قيمتها عن تأثيرفعل افتراضيّ في واقع رغبويّ متخيّل ، إنّها الحرب النفسيّة ، ولمن يفكّ كودها لا تعني أكثر من مدّ لسانٍ في الهواء .
رابعاً ــ الحدود ( السوريّة ــ اللبنانيّة ) : هنا يقف المرء وتأخذه الحيرة ، لهذا الإسم بلا مسمّى !!! فأين هي تلك الحدود اللامحددة واللامنجزة الترسيم ؟ !!!
وهل يكفي الصراخ المناسباتيّ الشعبوي ، للتوليفة الوظيفيّة لتيّار الـ ( 14 آذار) اللبنانيّ ، لكي تصبح الأمنيات وقائع ؟ !!! أوليست الحدود ـ أولاً ـ احترام يسكن النفوس ، قبل تحديد الأرض بحفر الفؤوس ؟ !!! وفوق ذلك ،أوليست كلّ تلك الهمروجات الشعبويّة من طرابلس إلى الى البقاع ، إلى كلّ الألسنة الجغرافيّة والديموغرافيّة اللبنانيّة الممتدّة والمعشّقة في الخاصرة السوريّة تنطق بما لا يرغبه المهمرجون ، من حقائق تاريخيّة ناطقة أنّ لبنان أصبح كبيراً بطرابلس والأقضية التي ' نهشها ' ( غورو ) من الجسد السوري لتصبح متصرفية الجبل لبنانكم الكبير ؟ !!! ثمّ لماذا ترتفع عقيرة فرقة الزجل السياسيّ الـ ( 14 آذاريّة ) اللبنانيّة وملحقاتها ، بأنشودة الحدود !!!لمجرّد الشكّ أو الزعم باجتيازٍ عرضيٍّ للحدود المفترضة للقوات العربيّة السوريّة ، ولا يرتفع صوت ناقد للممارسات التدخليّة الفتنويّة الملحّنة والمغنّاة من ذات الفرقة ؟ !!!
أم أنهم يريدونها إضافة حدوديّة ، طقوسيّة طوطميّة ، هم وحدهم لها الكهنة ، ولقدسيّة أسرارها هم المالكون ، فلهم وحدهم ، ووحدهم فقط ، حقّ اجتيازها ولمن للعبور يرخّصون ؟ !!! وإذاً فتلك الحدود مازالت اتفاقيات قانونيّة ورقيّة ، لا واقع رسمٍ يؤكدها ، وليس لها من سندٍ ماديّ ، فضلاً عن ليّها حقيقة التاريخ وتجاهلها لغة المكان وديموغرافيّة إنسانه ، فلنسمها إذاً بالتخوم اللبنانيّة ــ السوريّة ، تماماً كتلك التي بين مزارع الأخوة ، أو الجيران ، فهو أقرب إلى توصيف الواقع ودقّة تسميته .
فهل من احتمال لتصبح تلك التخوم مسرحاً للسلاح المهرَّب وتجارته ، ومسرباً لتسلل المسلّحين بكل أصنافهم ، لا العنفيين الإسلامويين فقط ، بل لأصناف المجرمين ، والمغامرين المرتزقة المأجورين ( ولمَ لا ؟ !! بوجود الدافعين الممولين ) ، إلى قلب الدّاخل السوريّ وبؤر أزمتة ؟ !! الواقع المعاش يجيب "" بنعم "" ، وبالتالي تصبح معالجة الواقع المقلق والخطر في تلك التخوم مهمّة أمنيّة من الدرجة الأولى ، للجم تهديد السلام المجتمعيّ بعمومه ، لا في سوريّة فقط ، بل وفي لبنان الهشّ أصلاً بتناقضاته البنيوية الكيانيّة التي يعرفها الجميع ، مما يحتّم عملاً سوريّاً ــ لبنانيّاً مشتركاً ، وجهداً ثنائيّاً يضع موضع التطبيق الإتّفاقيّات الثنائيّة ذات الصلة ، ويضع الخطط الملحّة ، لا لمعالجة الأزمة السوريّة الحاليّة فقط ، بل ولكلّ طارئة شبيهة على التخوم بين البلدين .
فمكمن الخطورة هنا لا يمثله كمّ ( العنفيين الإسلامويين ) فقط ، وهو محدودٌ أصلاً لأسباب لمّحتُ إليها وسأحاول حصرها لاحقاً ، ولكن لجوالتهييج الأهلويّ ، والتجييش المذهبوي ، وسياسات الثأريّة القصيرة النظر ، والتبعيّة المسيَّرة بلا أقنعة ، وتأجير القلم والبندقيّة ، في زفّة وظيفيّة الدّور، تتعدى هنا تهويش الحروب النفسيّة على المحمول المعنويّ ، إلى مباشرة التخريب الماديّ الفعليّ ، بجعل تلك التخوم منصّة لوجستيّة لإطلاقٍ قذائف الفوضى والأفعال الهدّامة ، وقاعدة خلفيّة لجبهات الدمويين المتنقلة ، وبأسماء حركيّة " ثورجيّة " لا ينقصها التلميع وجوقات المبررين ، ولكنْ وبضرورة الديناميّة في ساحة الفعل وبيئته ، فلن يستمر أثره عابراً للتخوم في اتجاه واحدٍ نحو سوريّة دائماً ، بل سيأخذ سياق فاعليّته المؤثرة في الإتجاهين ، ولو بتفاوت المواقيت .
خامساً ــ ( الحدود السّوريّة ــ التركيّة ) : هنا ، حيث يلتقي التّاريخ بجدليّة بنيويّته وخلاصة عِبرته ، مع الديموغرافيّ بخصوصيّة تموضعه ، مع السّياسيّ في ديناميّتة ، بتذبذبه وتغيّره ، وحتى انقلابيّته وتقلبه !! ، و ما يترتب على كلّ ذلك من نتائج ، ترسم مسارات إلى مآلات ، تُصدّق واقعيّة معادلاتٍ وتسقط وهم رغباتٍ وحالم أمنياتٍ ، مما سيكون موضوع الجزء الثالث من المقال :
( يتبع ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق