بقلم : د. منير القــوي
اعترافاً بالفضل ،ورغم أنّي بعيد عن كل عمل وظيفي ،بل وعلى بعد آلاف الكيلومترات جغرافياً ،من وطني (سورية) ،ومدينتي الجميلة ( الدريكيش )،وحارتي المتواضعة الصغيرة ،التي هي حارة الدكتور (دريد درغام ) ،لكنّنا لا نعرف بعضنا شخصياً ،يمكن بسبب اغتراب كلينا ،كلّ في مهمّةٍ وهمّ ،ومع ذلك واعترافاً بالفضل ،كما أسلفت ،فكلّ الشكر للكاتب لما حرضه في أعماقي ،من حماسةٍ لحوار أحب ،وإتاحته فرصته بكرم (وفي جميع الأحوال تبقى مختلف النقاط الواردة في هذا المقال مجرد تحريض لمزيد من الحوارات من أجل بلورة نظام وإيقاع اقتصادي أكثر عقلانية وأكثر إنسانية.) كما هدف الكاتب بتواضع ونبل في ""قولٍ ـ أملٍ ـ خلاصة "" جعل وقفتي مع تواضعه وانفتاحه الحواري ،يمتدّ لأكثر من حلقة ،وذلك بحدِّ ذاته قيمة ، فقد سبق وقرأت مقالاتٍ مدرسيةٍ لبعض الكتابيين الإقتصادويين ،استوقفني الحزن أمام فقرها وبؤسها ،ولم تستوقفني لقيمة بذاتها ،والأنكى أنّ كتابها يتموضعون في موقع الأستذة المتعالية ،والتعليم الواثق ،ككل مرضى ادِّعاء امتلاك الحقيقة ،فما يقولونه أحكام قطعيّة مبرمة ، لا تقبل استئنافاً أو نقض ،فكيف باختلافٍ ونقد ؟!!
هل هي أزمة سيولة أم تفاقم جشع المتعاملين؟ يسأل الكاتب ،وللسؤال شقان :
هل هي أزمة سيولة ؟ بالتأكيد ،ولكنْ مفتعلة ، كيف ؟
إنّ مركزة الكتلة النقدية بيد المضارب ـ اللاعب ،كسدٍ على مجرى نهر ،أعاد توزيع الكم النقدي بين بحيرة السّد المتحركة في استطاعة خزنها ،وما تسمح به ،تحكُّما تقنياً محسوب ،لما تراه ضرورياً لاستمرار دوران توربين صيانتها ،وبالتالي بحثها عن مجالات أخرى ،ومصادر تغذي منها بحيرتها الدينامية الإستطاعة المتنامية تغوُّلياً ،متسلحة بنظام نقديٍّ معولم ،وبدولارٍ طليق منذ عام 1971،تاريخ قرار الرئيس الأمريكي ( ريتشارد نيكسون) فك ارتباط الدولار بالذهب ،وحرية تبادل منفلتة من (الرقابة التدخلية للدولة) ،التي اعتبرها الرئيس الأمريكي ( رونالد ريغن ) عام 1984 (كل المشكلة ) ، في إطار حربه المفتوحة على (امبراطورية الشرالسوفيتية ـ حسب وصفه ) التي تعتمدها (الرقابة التدخلية للدولة) أداة ضبطٍ وتحكّمٍ ،في النظام الإشتراكي الموجه ،أنذاك .
هل هي تفاقم جشع المتعاملين؟ بالتأكيد فذلك واضح ،بينا في الجواب على الشّق الأول ،طبيعة أحد طرفي التعامل :المضارب ـ اللاعب ـ المتغول بانفلات متوحش ،أمّا الطرف الثاني للتعامل : المقترض ،أكان فرداً أومؤسسة ،فبتّأكيد لا يمكن إخلاءه من مسوليته ،ولكنّي لا أتفق مع (الدكتور درغام ) في حكمه القاسي (وهؤلاء يستحقون العقاب الذي أصابهم) ببساطة لأسباب عدّة ،منها :
1 ـ الفرد الذي ربتّه منظومة المجتمع الإستهلاكي على قيمها ، هو انعكاس سلوكي لتلك القيّم ، فالربح السريع ،ومهن الفهلوة المربحة بضئيل الجهد ،والربح العالي في أنشطةٍ مشبوهة كمهن المافيا ،والوساطة ،والتهريب ،والتجارات المحرّمة ،سلاح ،مخدّرات ،وحتى أعضاء بشريّة نشطت أسواقها ،بيعاً طوعياً بدافع الحاجة أوالنهم الإستهلاكي ، أوسرقة واختطاف من عصابات ،ومشافً ،وزبائن مقتدرين ،في جهاز آلة ربحيّة ،جهنمية مجرمة ،شوهت شخصية الفرد ،وقتلت في ذهنيته مفهوم قيمة العمل ( العمل = قيمة ) خاصة بعد سقوط أنظمة الأيديولوجية المقدِّسة للعمل ،بانهيار الإتحاد السوفيتي ومنظومته .
2 - الطفولة المتنامية الإمتداد اقتصادياً ،خاصة في المجتمعات الكومبرادوريّة المتخلِّفة التابعة ،المفلسة تطورياً ،والفاشلة تنموياً ،بحكم التشوه الهيكلي البنيوي لدولها ،منذ فصّلها على المقاس ذات النظام الإمبريالي ،صاحب توأمي "مؤسستي بريتون وودز":( البنك وصندوق النقد الدوليين ) ،وارث الامبراطوريات القديمة للأبيض العنصري الإستعلائي المستعبِد ومنجزاتها ـ الجرائم ،ملك الدولار ـ الدكتاتور النقدي ،صاحب (العولمة )و(منظمة التجارة الحرة) أو"المنفلتة" و(التبادل الحرّ) " وحيد اتجاه المنفعة " ،تاجر الحروب ،موظف مآسيها ،لتغذية وحشه الرأسمالي المتغول ،ومحاولة التهام العراق ،شاهد ناطق ، وكلّ التبريرات والدعاوى لا تتعدى الكذب الوقح ،والأضاليل المفضوحة .
3ـ المجتمعات المأزومة ،وخللها المتفاوت النسبة ،وإن بدرجات لا متشابهة النوعية ،وبحلول متنوعة ،بين مجتمع متخلِّف ،أو متقدّم ، زراعي أو رعوي ،أوخليطٍ منهما ،صناعي أو خدمي إلخ ...حيث يلاحظ تفاقم البطالة ،وإغراق أسواق العمل بطالبيه ،وعجزها المتنامي ـ المركب عن التلبية ،ومعوقات تكوين الأسرة ،وانفجارمعظم المحقق منها،وتأخر سن الزواج ،وانخفاض معدلات الخصوبة والإنجاب في المجتمعات المصنعة ،وانفجارها في المجتمعات المتخلفة ،وظاهرة أبناء الشوارع ،وساكني الأرصفة وحتى المقابر،وأزمات الجوع ،والأمراض الإجتماعية ،والأوبئة ،وتهديد البيئة والتوازن الطبيعي ...إلخ..
4 ـ قوة آلة الميديا ،والدعاية ،والإعلان ،وغسيل الدماغ المنفعل بتلقيه قصفاً ثقافوياً موجهاً ،على مدار الساعة ،جاعلاً من الدماغ وعاء تلقٍّ ،لا مجال تفاعل وتفكير ،في إلغاءٍ متعمد لملكاته اللامرغوبة ،من النظام المهيمِن ،لإكمال تشييء الإنسان ،وإنجاز إلحاقه الناجح بآلة الإنتاج الرأسمالي عضوياً ،وبانتقائية النخّاس للعبد المؤهل ،حيث يرفض ابن المجتمعات المتخلفة الجائعة ،والتي عبّرعنها بتبسيطية كاريكاتورية العقيد القذافي في زيارته لباريس العام الماضي ،حيث أطلق تصريحه الشهير ،في مظاهرة "الزبالين" التي قادها في باريس ،حيث قال مخاطباً الغرب :( لاتريدون هؤلاء الجائعين ،حسناً، أعيدوا لهم ثرواتهم التي سرقتوها ،وإلاّ فلهم الحق في مشاركتكم ماهو حق لهم ،وليس من قوة في الدنيا تستطيع منعهم من القدوم إليكم ،فالجائع يبحث عن الطعام ،وأنتم سرقتوه ) ،تصريح أثار عواصف من الإستنكار ،خنقتها الصفقات التي وقعها مع الرئيس ساركوزي ،إنها قوة المصلحة ،ولغة البراغماتية التي انتصرت على العاصفة .ويأتي الدكتور درغام ليعاقب الضحية مرّة ثانية (وهؤلاء يستحقون العقاب الذي أصابهم) !! مما لا أتفق معه عليه أبداً ،ولا أقبله ، فضلاً عن تناقضه الصارخ مع قول الدكتور في ارادويته من الحوارات التي يدعوا إليها : (الحوارات من أجل بلورة نظام وإيقاع اقتصادي أكثر عقلانية وأكثر إنسانية.) ،فهل ذلك متسق ؟ !!
وهنالك ملاحظة كنت قد نوهتُ إليها في القسم السابق :(واستعمال بعض المصطلحات خارج سياقها الزمني ،أو في قسرٍ راجع ،ربّما سهواً ،لاستعمالها قبل ولادة مفهومها )، فمصطلح "الدول النامية" لم يُعرَف ،إلاّ في أعقاب الحرب الإمبريالية الثانية (الحرب العالميّة الثانية ) ،وبشكلٍ متدرِّج كرونولوجي للمصطلحات ، ظهر في بداية الأمر مصطلح " الدول المتخلفة " وقُصد بها الإشاره لما كان يُسمى" ماوراء البحار " واغلبها كانت خاضعة آنذاك للاستعمار الغربي ،ونتيجة للإنتقادات التي وُجهت لهذا المصطلح فقد تتابع توالي المصطلحات والتسميات مع أن المقصد منها واحد ،لكنها أختلفت في طابعها فبدت أقل حـدة وأكثر تقبلا .فظهر مصطلح " الدول الأقل تقدماً " ثم " الدول النامية " وقصد بها الدول ذات الأمكانات المحدوده وفيما بعد مصطلح " دول العالم الثالث "،مما وجدت لزاماً وأمانة الإشارة إليه ،أمام استعمال الدكتور درغام له في فترة بين الحربين الإمبرياليين ،الأولى والثانية :(رغم كون أزمة الكساد الكبير عام 1929 هي الأشنع في التاريخ إلا أنها اقتصرت بمساوئها ونتائجها المدمرة على الدول المتقدمة بشكل أساسي، وبقيت الدول النامية شبه معزولة عن الهزات العنيفة لتلك الأزمة. فمعظم تلك الدول كان من الدول الزراعية التي تعتمد على الاكتفاء الذاتي من محاصيلها. أما الدول النامية التي تأثرت فكانت تلك المعتمدة على التجارة أو تلك المعتمدة على تصدير المواد الخام والأولية.)،ففي بداية الثلاثينات من القرن الماضي ،لم تكن خريطة الدول الحالية ،لمعظم دول آسيا وأفريقيا معروفة ،فضلاً عن تصنيفها بالنامية ،فالدول الحالية هي الوليد المصطنع لنتائج الحرب الإمبريالية الثانية ،وتسوياتها ( يالطا وأخواتها ) ،فضلاً عن أنها بمعظمها كانت محميّات ومستعمرات ،لما اصطلح عليه بإمبراطوريات الإستعمار القديم ،حتى الهند والصين ،وكل أفريقيا .
أمّا أنّها ( أزمة مالية ستتحول أزمة اقتصادية وإنتاجية ؟) ،فبالتأكيد ،إنَّ أزمة ـ زلزال بهذا الحجم لا يمكن لجم تداعياتها ،فانخفاض القوة الشرائية ،سينعكس على الإستهلاك ،كمّاً ونوعاً ،سينقص الطلب على المنتَج ،فيتراكم المعروض ،فيتباطأ الإنتاج حُكماً ،لتدخل عجلة الإقتصاد ككل في تباطؤٍ ،أيصل إلى كسادً زلزالي ،أمْ بآلية متخامدة التسارع ؟ ذلك رهن بالحلول والتصديات ،وربّما نقل الأزمة إلى توازن قلق آخر في ميدان آخر ،أجاد النظام الرأسمالي حتى الآن إدارة لعبته ،وإنْ كانت الصعوبة ،مع الأزمة الحالية أكبر وأعقد ،وهامش المناورة إلى الضيق أقرب
.
وأمّا أنَّ الأزمة ستقف بتطورها عند حدود الأزمة الاقتصادية والإنتاجية ؟ فذلك مشكوك فيه ،فالبوادر تشير إلى إمكانية تطوّرها ،بل دخلت فعلاً في طور الأزمة الإجتماعية المخيفة ، فمليوني بريطاني فقط مهددون في أعمالهم ،ومؤشر البطالة في فرنسا سجّل أعلى ارتفاع له في آب 2008 ،ولا يجرؤون على نشر أرقام أيلول ، والصراع الأيديولوجي يشتد ،واليمين الفاشي يتجذر ويميل إلى العنف أكثر فأكثر ،صورة قاتمة متشائمة ترتسم ، وعوضاً عن المزاج المتفائل للدكتور درغام ،ألاقيه في التقدّم بمقالته ،وقد لاقاني في مربعي التشاؤمي ولونه الرماديّ الغامق ،حين يقارب الوضع السوري في آتون الأزمة :
(وبما أن التبادل التجاري وإرساليات المغتربين السوريين من العناصر الهامة في رفد سورية بالقطع الأجنبي، نجد أن الأزمة الحالية سيكون لها أثر كبير على الاقتصاد السوري. فمن جهة سيؤدي الركود الاقتصادي العالمي إلى تأثر فرص العمل ومستويات الدخول لجميع المقيمين في تلك الدول ومنها المغتربون السوريون. وهذا سيؤدي إلى احتمال تزايد الطلب على فرص العمل في سورية من قبل المغتربين الذين تأثروا بالركود في بلدان المغترب فضلاً عن احتمال انخفاض حجم القطع الأجنبي الوارد.).
لقاء في منطقة التشاؤم الكالح ،يجعلني أقف ،لأخذ النفس ،إلى لقاء قادم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق