الأربعاء، 8 أكتوبر 2008

صندوق النقد الدولي والعولمة.. بقلم : الدكتور منير القوي


مما أصبح جليّاً ،أنَّ برامج صندوق النقد الدولي قد طُوِّرَتْ ،بحيث انسجمت دائماً ،ولم تخرج أبداً ،عن النسق المبرمج لسياسات العولمة ،وبكل أبعادها ،وتمظهرات تحققاتها ،والتوجه المرسوم لمخططاتها ،لبلوغ أهدافها الموضوعة مسبقاً ، وليس كما يُحاوَل إظهارَها ،مع الأزمة المالية الحاليّة ،على أنّها أزمةٌ سببها إقراض عقاريٌّ أمريكي ،عالي الخطورة ،غير مدروس كفاية ، أي اختزال الأزمة إلى "خلل تقنيّ" يتحمّل مسؤوليته موظّفون تنقصهم الخبرة ، وغير أكفّاء ،أو ارتكبوا الخطأ سهواً ،أوعن قلّة احتراس أو إهمالٍ حصل أو يحصل ،مما لا تنكره طبيعة العمل البشري ،القمينة ،وبطبيعتها أيضاً ،بتداركه وتصحيحه ،مادام قد فاتها تلافيه ،في محاولة مخادعة للقفز،وعدم الإعتراف بحقيقة الخلل /البنيوي ـ الأساس/ الذي يعتورالإقتصاد الليبرالي العالمي ـ المؤمرك أو المعولَم ،في أحاديّة اتجاهه المنفعي ،وبتقسيم صارخ في "لاتكافئيّته" ،و"لاعدالته" ،بين مركزٍ يملك الحق في كل شيء ،ومحيطٍ "يملك الحق في الخضوع فقط " لقرارات المركز ،ومتطلباته ،ووصفاته ،لا في الحرمان التاريخي الإجرامي للمحيط من أسباب التطور العلمي ،والتقني خاصةً ،وفقط ، ولا في قبول هذا المحيط أن يكون مصدر المادة الأوليّة ،بما فيها إنسانه المشيّأ ،،ولا أنْ يكون سوق استهلاك لفائض منتجات المركز الرأسمالي المهيمن ،بل أنْ أنْ يقبل أن يكون مكبّ نفايات المركز السّامة ،يعني ببساطة ""مزبلة"" المركز السيّد المرفّه !!.
منطق دعاوي ايديولوجي ،نفاقيٌّ أخلاقوي ،لا يزوِّر الواقع الكارثيّ فقط ،بل يجعل من مساعدة المؤسسات الماليّة المنهارة أو المهَدَّدة ،ضحيّة هؤلاء "اللا أكفّاء" ، واجب أخلاقيّ ،فضلاً عن كونه برنامج إنقاذي للنظام المالي العالمي ،الذي هو صحيح في توجهاته!! ،وإن بدت الأزمة الحاليّة دليل تعثّرٍ ،ففي التطبيق فقط ،إنّه خطأٌ تقنيّ وحسب ،!!
.هكذا وباستعمال تسوناميٍّ لآلة الإعلام الغربية الجبّارة ( الميديا المسيطر عليها نيوكولونيالياً) ،يحاول مركز السيطرة الأمريكي المقرِّر للسياسة الإقتصادية العالميّة ،وليس المالية فقط ،منذ فرض الدولار الورقي الأخضر ،بديلاً للمعدن الأصفر(الذهب) ،كاحتياطيٍّ معتمَد في الخزائن المركزيّة لدول العالم ،كليّاً أوجزئياً ،تاجر الحروب الدائم هذا ،بحكم بنيوية نشأته ،واهتمامه المهووس بتطويرصيانة وسائل هيمنته ،وترسيخ دعائم مركزية قيادته المهددة دائماً بعوامل التآكل والمنافسة ،وربّما بأسباب التحدي والتمرد من هنا وهناك ، ،يعاونه الدّائرون في فلكه ، من الشركاء ،والمستفيدين ،والأتباع المضاربين ،واللصوص المودعين ،من كبيرهم المحتكرللُقْمَة فقراء الكوكب ،والمعيق باحتكاريته المتوحشة لأسباب تطوُّرهم ، إلى السلطات الوظائفيّة ـ الزبائنيّة المعّينة ،إلى آخر مافيوزيٍّ أو مافيوزوي ،وإلى أصغرمبيض أموالٍ، من سارقي خزائن شعوبهم ،وتجّار المخدرات ،والأسلحة ،وملوك تجارة الجنس وسياحاته المنحرفة ،وأصحاب شركات وشبكات لإتجار بالرقيق الأبيض (ممن طوّروا أساليب واسثتمارات أسواق النخاسة المستنكَرَة ،وتجارة العبيد المدانة )، في منظومة اخطبوطية مصرفية نهمة ،تشكِّل المضاربات على الحبوب ،ومواد الطاقة ،والعقارات ،واجهتها المعلنّة ،في الجزء الضئيل الطافي والمعايَن ، ليبقى الأعظم من اخطبوتيتها مقيم في ظلام قاعات القرارالعميقة المغلقة .
والسؤال لماذا صندوق النقد الدولي ؟
بالتأكيد ليس من الجواب استعراض هيكليته ،إلاّ بما تقتضيه المقالة من الهدف الأمريكيّ لإنشائه ،والسياسات النقديّة الموكولة إليه ،وبالتالي تطور برامجه المرحلية وإدارته ،اتساقاً مع الأهداف المستجدة ،والمرحليّة أيضاً،استجابة ودعماً لسياسات الإدارات الأمريكية ،منذ ماعُرف اصطلاحاً ـ جيوسياسيّاً بـ (عصر الحرب الباردة) ،وإلى يومنا ،بما يصطلح عليه بـ ( عصر العولمة ) ،والأصح ( عصر الأمركة ) بلا أقنعة ولا تمويهات ماكياجيّة ، ولعلّ الوقوف عند إدارته الحاليّة ،يسمح بتوفير مدخلٍ إلى فهم تلك المؤسسة ونشاطاتها ،والتي تجد نفسها متموضعةً في تعاونٍ وثيقٍ ،وتكاملٍ محكم ،مع توأمها ،مؤسسة (البنك الدولي ) ،والمعروفتين بـ "مؤسستي بريتون وودز" ،المولودتين عام 1944 أثناء مؤتمر لزعماء العالم في (بريتون وودز) بولاية نيوهامبشير الأمريكية ،لوضع الاقتصاد الدولي على الطريق الصحيح !! بعد الحرب الإمبرياليّة الثانية ( الحرب العالمية الثانية ) .
على رأس صندوق النقد الدولي حاليّاً رجل الإقتصاد الفرنسي،"الإشتراكي" (دومينيك ستراوس كاهن) ،منذ حوالي السنة،وكان قد رشحه وأوصله الرئيس الفرنسي "اليميني" ،السيّد (ســـاركوزي) ، ولئن كان اقتصاديو الغرب ،بيمينهم ويسارهم ، بماركسويهم لا ماركسييهم ،هم أبناء شرعيّون لثقافة (مشروع مارشال) وأخلاقيته السياسية ،وبالتالي فالنموذج الأمريكي فنارهم وهاديهم،فلماذا كان السيّد (دومينيك ستراوس كاهن) "الإشتراكي" ،رجُل الرئيس الفرنسي "اليميني" ؟!! علماً أنّ لدى السيّد (ساركوزي) في معسكره العشرات من العتاة المؤهلين .
من المعروف أنَّ رئاسة صندوق النقد الدولي يشغلها أوروبي غربي ،ترشحه أوروبا وفق معاييرمحددة ،وتقرُّه أمريكا ، ضمن شبه (دفتر شروط) ،وهي التي انطبقت على السيد (دومينيك ستراوس كاهن) "الإشتراكي"!!صاحب الإيديولوجية الشهيرة التي يلخصها بجملتين (إن الحل يتمثل في :
١ـ التقنينات الجديدة.
٢ـ مرحلة طويلة من "الفوضى الليبرالية" . )
- فأوروبياً :
ــ إنَّ السيّد (دومينيك ستراوس كاهن) ،هو من أكثر الإقتصاديين الفرنسيين حماسة لليبرالية الإقتصادية الأوروبية ،لا الفرنسية فقط ،وهو الإيديولوجي المؤمن أنه :لا زال بإمكان "اليسار" أن يفعل داخل الاقتصاد (الليبرالي )المعولم الجديد !! (ربّما بتدخلية الدولة !! ) ،وهو وزير الإقتصاد والمالية الفرنسي لمرات متعددة مع الحكومات لإشتراكية المتعاقبة منذ حكومة السيّدة (اديت غريسّون) عام 1992 ،وإلى حكومة السيّد (ليونيل جوسبان) الإشتراكية الأخيرة عام 2000 .
ــ وهو أحد فيلة الحزب الإشتراكي ،الذي قدّم للسيد ساركوزي جليل الخدمة بمنافسة ،وإضعاف ،السيدة (سيغولين رويال) في التقدم إلى الترشح لمنصب الرئاسة الفرنسية ،مما يردده أنصار (رويال) ،أنَّ منصبه كرئيس لصندوق النقد الدولي هو المكافأة ـ الثمن المتفق عليه (ربّما ؟!!) ،وهم يطلقون على السيد( د .س .ك) اللقب المزدري : (كوريدا) ،الذي يعني فيما يعنيه : الإنتهازي المستعجل إلى الكرسي ،الدردور الدّوامة ،والمُهيِّج للدهماء لاهتبال الفرصة ،وكلها مزايا مزدراة .
ــ وقبل كلِّ ذلك هو زوج السيّدة ( آن سانكير ) ،الصحفية والإعلامية الأولى في ثمانينيّات ،وتسعينيّات القرن المنصرم ، والتي تكبره بسنة ،وهي التي فتحت أمامه الأبواب والطريق السياسي ، بذكائها ،وحضورها المحترم المميّز،ومهنيَّتها ،وطلّتها الجميلة ،كأجمل صاحبة ""عينين خضراوين ""عرفتهما شاشة التلفزيون الفرنسي ، خاصة في برنامجها السياسي (7/7) بين عامي 1984 ـ 1997 على شاشة (ت.ف.1) .
ـ وأمّا أمريكيّاً :
ــ ففي عهد وزارته الفرنسية للمال ،نقلت شركة (بيشيني) للصناعات المعدنية (الومينيوم) مقرها إلى نيويورك ،بكل رمزية تاريخها ،وما خلّفته من بطالة ، ولم يجد السيّد الوزير موقفاً ،إلاّ تعليقاً تجاريّاً ،لا يصدر إلاّ عن ليبراليٍّ قحٍ :(لقد جمعت "بيشيني" قواها مع قوى الكندية "ألكان" الأكبر منها، وهذا هو السر في أن المقر المركزي يوجد بنيويورك برئيس سيكون فرنسيا.)!! مع أنّ السيّد (د.س.ك) يستنكر وصفه بالليبرالية !!.
ــ السياسات التي اعتمدها في مواقعه الرسميّة الوزارية ،إقتصاد ،ماليّة ،في الحكومات""الإشتراكية""الفرنسية بين الأعوام 1992 ـ 2000 برهنت عن اندماجية كلية ،مع توجهات العولمة ،وتبعية كليّة لقيادة وتوجهات ،وتوجيهات ،النظام النقدي العالمي ،وآليات مؤسساته ،بالزعامة أحادية القطب الأمريكية .
ــ من موقعه الأكاديمي في جامعة (بونتواز) الفرنسيّة يعدُّ من كبار المنظرين للعولمة الإقتصادية ، خاصة من موقعه القيادي في الحزب الإشتراكي الفرنسي ،على قاعدة " وشهد شاهد من أهله" بالمعنى السلبي ،المؤكد لإفلاس التوجهات الإشتراكية وايديولوجياتها ،حتى في وجهها الإصلاحي المهادن ،المعروف عن نسخة "الإشتراكية الثانية" ،وأطياف مدارسها المتعددة .
ــ الجهود التي قادها بكفاءة ،كوزير للمالية ،في الإيقاع بالعمل النقابي وتقسيمه المواقفي ،مع القرارات الضريبية ،وسياسات الخصخصة ،والإصلاحات الشكلية للأجور والإعانات الإجتماعيّة ،والتي كان لها كبير الصدى في منطقة الـ (أورو) ،وكل الرضى من التوأمين "مؤسستي بريتون وودز":( البنك وصندوق النقد الدوليين ).
والسيّد (د.س.ك) ،بعد تسلمه إدارة (صندوق النقد الدولي ) ،يتابع ذات السياسات ،ويتردد أنّه يمارس ،ومن ضمن مهامه ،وظيفة المستشار للكثير من كبارأصحاب القرار ،ومنهم بالطبع راعيه ،وموصله إلى موقعه ،الرئيس الفرنسي السيّد (ساركوزي) ،الرئيس الدوري الحالي للإتحاد الأوروبي ،صاحب المبادرات والدينامية المشهودة ،خاصة بدعوته لاجتماع باريس الرباعي (الفرنسي ـ الألماني ـ الإيطالي ـ البريطاني ) ،واقتراحه إنشاء (صندوق أوروبي مشترك) للتصدي المنسق للأزمة المالية الراهنة ،والذي جوبه بالموقفان المعارضان :
١ـ الألماني الرافض كليّاً لتحمّل مسؤولية الأزمة ،أوحتى بعضها ،والتي هي أمريكية حصراً،فعلى الولايات المتحدة تحمّل نتائجها ،معدعوة كل دولة للتصدي لانعكاسات نتائج الأزمة على أسواقها المالية وبورصاتها ،بامكانياتها الخاصة .
٢ ـ الإنكليزي الرافض لـ (للصندوق المشترك المقترح)،ولكن من منطلق آخر تماماً :
هوأيضاً دعوة كل دولة للتصدي لانعكاسات نتائج الأزمة على أسواقها المالية وبورصاتها ،بامكانياتها الخاصة ،ولكن من ضمن الآليات المتاحة ،بمعنى من ضمن آليات السوق المالية العالمية ،المصممة أمريكياً قيادة وآليات ( "مؤسستي بريتون وودز":( البنك وصندوق النقد الدوليين )ومتابعة سياسات العولمة مع التعديل التدخلي المقبول أمريكياً.
وبالمحصلة :
إسقاط الطموح الساركوزي ،وبالتالي الأوروبي ،لاستغلال الأزمة ،وإنشاء صندوق مالي أوروبي ،لا ليكون بديلاً للمؤسسات والصناديق الأمريكية ،أبداً ،ولكنْ ليكوِّن نواة قوة مالية ،خارج السوق الأمريكية ،ذات وزن مستقبلي في تقريرالسياسات المالية الدولية ،وهو ما ترفضه بشدّة الولايات المتحدة الأمريكية ،تؤيدها مُعرقلةً ،تابعتها الطيِّعة دائماً : السياسة الإنكليزية ،اللغم الأمريكي المقيم في خاصرة المشروع الأوروبي ،وإلى أجلٍ ،بالتأكيد ليس أبدي .
يبقى سؤال مشروع : إذا كانت اقتصاديات كبرى تنوء بسياسات العولمة ،وايديولوجيتها الليبرالية ،التي تعلن عرجها وبوادر إفلاسها ،حتى في أوساط ولادتها وتوظيفها ،وإذا كانت وصفات صندوق النقد الدولي المطبّقة في دول "المحيط الرأسمالي" ، قد قادت إلى تعميق هوَّة البؤس والفقر عند الشرائح الإجتماعية الدنيا ،وزادتها كمّاً بإفقار الشرائح الوسطى المضافة ،ـ (بالطبع للإقتصاديات الريعيّة آلياتها المختلفة ، وإنْ كان استنزافها بيّن جليّ )ـ ،وفي واقعنا العربي المثل المصري والمغربي والأردني و............،فماذا ينتظر التلامذة الليبراليون الأغرار من الجري وراء السياسات الليبرالية ووصفات مؤسسات العولمة ؟!!
ألا تكفي الأمثلة المذكورة ؟!!
أم أنّه دور متعمّد وحرب بالتخريب ،بلا قعقعة سلاح سافر البغيِّ ،أو رائحة بارود الغزاة ؟
أليس التساؤل مقلقٌ فعلاً أمام زنخ الفساد والإصرار على الوصفة القاتلة ؟
بل أوليس السؤال أكثر من مشروع ؟!!!

ليست هناك تعليقات: