قصير عمر الإنتصار الذي أعلنه أبطال نادي الإيديولوجية الليبرالية ،بقيادة الكاوبوي الهوليودي،عقب انهيار قلعة الإيديولوجية الماركسية النقيضة ،وزوال (امبراطورية "الشّر" السوفيتية) .
تحتضرالإيديولوجية الليبرالية ولم تبلغ العشرين من عمرانتصارها ،والألعن يهرول ناديها ،وفي قلعتها الأمريكية بالذات، إلى وصفات الماركسية ،في محاولة إنعاش "المنتصرة" المحتضرة !!، فكم من النظريات الإيديولوجية "الفانتازية" سنجدها قريباً على المحفّات ،في مواكب التشييع ،بلا دموع ،إلى مقبرة إيديولوجيات التاريخ ،الباقية وحدها حيّة ، وتسقط الإيديولوجيات أو تتساقط ،ولن تكون الليبرالية آخرها ،ولن تكون استثناءً من المصير المحتوم ،نظرية ( نهاية التاريخ ) الفوكوياماوية ،الإحتفالية ،استبشاراً ،بملهمتها المنتصرة ،الإيديولوجية الليبرالية ، منذ أقل من عقدين .
فهل عصر السرعة الذي نحياه ،وسم أعمار الإيديولوجيات ،كما احتفالاتها ، كما إنجازاتها ،ايجاباً أوسلباً ،وجعل لها صفة "الأزياء (الموضات) الموسمية" أوخفَّة وسرعة "استعمالية محارم (الكلينيكس)" أو "شفرات الحلاقة ذات الاستعمال الوحيد" ،الحادة نعم ،ولكنْ لمرة واحدة ؟
هل سيصبح سقوط جدار برلين تفصيلاً وفاصلة ،أمام الآتي من زلزال عظيم ؟
وهل بدأت حضارة العنف ،والدم ،والبارود ،والدّمار الذاتي،التي قادها "السوبرمان الأبيض"لابتلاع العالم ،تتقيأ صديدها ،بدأً من انهيارات الأسس الملحية لاقتصادها الذي راكم ثروات الشعوب المنهوبة ،المستعبدة ،بل والمبادة ،خارج مركزه الأوروغربي ـ أمريكانويانكي ،خاصةً منذ عام 1492 ،تاريخ وصول الفاتح الأبيض ،بكل عنصريته وإجرامه ، لما يعرف حالياً بالقارة الأمريكية ،التي أطلق عليها تضليلاً( أرض الميعاد ) ،كعادته في إلباس جرائمه وجشعه ،لبوساً عقائدياً أخلاقيّاً خادعاً ، وتبرير إجرامه ،تطهُّريّاً ،أمام نفسه المضطربة المريضة ،وأمام ضحيته ،التي يجب أنْ تتفهم نُبْل "إجرامه" فهو يقتلها بقلب خاشع ،وضمير مرتاحٍ رحيم ،لا يقصد إلا تخليصها من عذابها ،من وجود قاسٍ ،تعانيه ويؤلمها ،فهجره نعمة ،وتركه حكمة ، ومَنْ أدرى بنعمة الموت والفناء ،مِنَ القاتل رحمةً ،السيّدُ الأبيض ،النبيل حتى وهو يقتل ،حريصاً على مشاعر الضحية وكرامتها ؟!!
وكم جحدت الإنسانية "فضائله" ،مع أنَّ جلاءها كعين شمس الضحى ،لكنّ الجاحد ذاك ديدنه ،فحتى بنعمة الله من المنكِرين !!
ومن آخر فضائله ـ المآثر : الأزمة المالية الأخيرة ـ الحاضرة ،والتي يبدو أنّها ستتسع وتدوم ،فمن الولايات المتحدة ـ أرض الميلاد ـ انساحت تدريجيّاً إلى أوروبا .
وفي محاولة لإيقافها ،وحصر مفاعيلها ،تصورت الحكومة الأمريكية مخطط إنقاذ بقيمة /700 /مليار دولار،وعلى مايبدو،فإنَّ تدخُّل الدولة أصبح مطلباً ملحّاً عاماً ،بعد مبادرة الحكومة الأمريكية التي أسقطت الـ (تابو) ،الذي طالما حملت رايته ،مما يقدّم الشهادة ـ الإدانة ،والعلامة ـ الصّفعة لفشل السياسات الليبراليّة ،ووصول أساسها الدعوي الإيديولوجي إلى الإعتراف برمليّة القواعد ،إنْ لم يكنْ بوهم وواهي إثبات وجودها أصلاً ،ورغم ذلك فقد انقسم "المؤمنون"الليبراليون في مجتمعات الغرب ،لا أمريكا فقط ،إلى :
١ـ متصلبين أرثوذكس ،رافضين تدخل الدولة في آلية السوق ، معتبرينه "اعتداء" ،داعين إلى المزيد من الليبرالية ،بترك السوق المالي ،لآلية تطورها الذاتي وتوازنها التلقائي العفوي ،ببساطةٍ : (لقانون العرض والطلب) اللامقيَد إلاّ بذاته ولذاته ،بكل نتائجه المحتملة ،لا الربح والخسارة فقط ،بل واحتمالية الركود أيضاً ،والتي هي من صلب حيوية طبيعته المتغيرة ،المتطورة ،وحتى الدوريّة أيضاً (مسلمة الدورات الإقتصاديّة) المعروفة .إجابة كلاسيكية إيمانية ،بل ومرجئة أمام أزمة مالية عاصفة ،منذرة بانهيار النظام المالي العالمي !!
٢ـ وفريق آخر ،أقلُّ تشدداً ومحافظة ،وأكبرعدداً ،في منطقة الـ (أورو) خاصةً ،قبل بتدخُّل الدولة استثنائيّاً ،وضمن شروطٍ خاصة ،منها طبيعة الأزمة الإسعافي ،المتفاقم الضاغط ،والمنذر بنتائج كارثية ،على النظام الإقتصادي العالمي .
هكذا استطاع وزير الخزانة الأمريكي (هنري بولزون) تمرير مشروعه لدى المشرِّع الأمريكي في 02/10/2008 ،بعد رفضه ،في عرضه الأول ،من قِبَلِ مجلس النواب ،قبل ثلاثة أيام في 29/09/2008 ،وتحت ضغط سياسي مستمر، ليس من الإدارة الأمريكية فقط ،ولكن أيضاً من الشركاء وراء المحيطات ،في أوروبا وآسيا ،وحتى من الحليف الشمالي الكندي ،الذي اتخذ موقفاً نقديّاً تقريعيّاً متقدّماً ،حتى على الموقف الألماني الذي حمّل الإدارة لأمريكية المسؤولية ،ودعاها إلى تحمّلها ،وقبول نتائج مفاعيلها ، وكذلك تحت ضغط إنذارمؤشرالبورصات العالمية المهدد بالإنهيار،وسرعة تضخّم كرة الإفلاسات البنكية المتدحرجة ،بسبب الأزمة الناتجة عن القروض الأمريكية عالية الخطورة ،ونتائجها خاصة على صغار المودعين،والذي لم يعد أمريكياً فحسب ،ولكنْ أوروبياً كذلك ،مما أجبر ألمانيا ،ومجموعة الـ (بنولوكس : بلجيكا ،هولندا،واللوكسمبورغ) ،وخاصة بريطانيا ،إلى تأميم المؤسسات المالية المهددة بالإفلاس ،في خطوات عادت الدولة فيها للعب "دورها المغيَّب ،الراعي ، الموجِّه والضامن" بعد تجاهل وإقصاءٍ له لصالح السياسات الليبرالية الإقتصادية ،ومؤسساتها المالية المتحررة من كل رقابة للدولة ،خاصة في نشاطاتها المتعدية لحدود الدولة ،بحثاً عن الربحيّة السريعة (مضاربات ،تأمينات في مناطق لا مستقرّة ،توظيفات وهميّة ،قروض غير مدروسة ،عالية الخطورة ) ،وبتشجيع من نظام ماليٍّ عالميٍّ ،تقوده السياسات الأمريكية اللامسؤولة ،والمنطلقة من محليّة أمريكية ،هي العالمية المبتسرة ،بتجاهل كليٍّ لبقية العالم ، في عولمة مؤمركة ،نافية لكل ماهو خارج حدود ولاياتها ،في اختزال للعالم وحاجاته ،وحتى أزماته ،إلى حدود ضيّق محليّة رؤيتها ،وأنانية مصلحتها ،لا في (وول ـ ستريت ) ،وبنوكها ،فقط ،بل في تشييئها الآخر ،سلعة وأداة استعمال لحل حاجاتها وأزماتها .
ومما لاشك فيه فإن البرنامج الإنقاذي المُمَرَّر بشبه (تهريب) لدى المشرِّع الأمريكي (حيث صوت مجلس الشيوخ قبل مجلس النواب في عرضه الثاني المعدّل ،مخافة أنْ يرفض مرّة أخرى من قبل النواب ) ،وفي ظروف حملة انتخابيّة ، لكلٍّ حساباته الخاصة فيها ،من جمهوريين وديمقراطيين ،إلاّ أنَّ مبلغ الـ 700 مليون دولار ،المجزأ والمشروط ،والمراجَع التقييم بعد سنة ،يبدأُ خطاه أعرجاً ،فمبلغ الأزمة المقدر حتى الآن تجاوز الترليون دولار( الف مليون ) .ويبقى بعد إقرار العلاج التلطيفي " البولزي "الذي أجَّل الإنهيارالمالي (لاكراش) ،فإنَّ خطراهتزاز الثقة بالدولار،قائم ،وإنْ وقع ،فسيؤدي إلى انهيار العملة الأمريكية ،وبالتالي انهيارالنظام النقدي العالمي ،كقصر من أوراق اللعب المتكاتفة ،حيث الدولار (حجرسنّمار)الأشهر، في توازنها القلق .
فهل آنَ الأوان لمراجعة مركزية الدولار في النظام النقدي العالمي ؟ الذي أصبح منذ الحرب الإمبريالية الثانية ،وحدة الإحتياطي الحقيقية المعتمدة عالمياً ،بل أصبح في تماه مع ذلك النظام النقدي ،واسمه الفعلي لا الرديف .
وهل سيتوصّلُ إلى اعتماد سلّة العملات الموعودة ؟
وقبل كل ذلك : يبقى السؤال المركزيُّ مطروحاً ،هل سيخرج العالم من أحادية قطبيته السياسية فقط ، وهي في الأفق القريب ، أمْ سيحصنها بتعددية قطبية مالية ـ اقتصادية ،فتكون "الليبرالية المفلسة" ،قد أسدت الخدمة ،التي طالما عرقلها غودو الإيديولوجي الليبرالي ،بغده الموعود ، ولتسعة عقود .
داسك سيريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق