الاثنين، 21 نوفمبر 2011

العلاقات السورية ـ التركية والأمن القومي العربي ( 6 )

من قلم د . منير وسّوف القوي


في مقالاتٍ خمسةٍ سابقات ــ منشوراتٍ بذات العنوان ــ ابتداءً من شهرآب عام ٢٠٠٨ وحتّى أيلول ٢٠١١، تدرجتُ في ألوان الرؤية الراصدة لتطور العلاقات السورية ـ التركية بحصريّتها ، واحتمالات انعكاساتها على الأمن القومي العربي بكليته ، من أزرقها الهادئ الواعد ، إلى رماديّها الميّال إلى سوادٍ مُنذرٍ في المقال الخامس المعنون : بــ ( السيناريو الأسود والبراغماتي " آردوغان " ) ، المنشورعلى موقع ( داسك سيريا ) في شهر أيلول الأخير

في تدرّج ألوان الرؤية تلك ، لم يكن للرغبويّة مكاناً ، فليس في حقائق السياسة تسطيراً للأمنيات ولا لورديّ الأحلام أو لسواد الكوابيس ، بل فيها قراءة وقائع تحترم االمصالح المؤسسة على أرضيّة ثابتة ، وأُولى تلك (الحقائق ــ الوقائع) مسألة الجغرافيا ، وما يُبنى عليها ويتبعها بحكم منطق الأمور من حقائق بنيويّة لاحقة ، علائقيّة مُؤسَسَةٍ ومُؤسِسَة ، ديموغرافيّة وفيها حياتيّة حتى اليوميّة منها، وجيوبوليتيكيّة تتراوح من التقاء المصالح والتعاون ، إلى تناقضها وصراعها ، وتوظيفها كلَّ مايتاح دون استثناءٍ ، حتى للحروب وشلّال دمائها دورً في عداد أدواتها ، سيّما إذا ارتبطت الجيوبوليتيكيّة المحليّة ــ الإقليميّة بأجنداتٍ عالميّة ، لها استراتيجيّاتها المبرمجة التكتيكات ، الممتدة على السنوات والعقود وربّما أطول زمنيّاً !!!

فإذا كان من الممكن إرادويّاً طيّ صفحاتٍ من التاريخ رغم استحالة الإلغاء ( الحقبة العثمانيّة مثلاً ومثالها الأقرب تاريخ الحروب الأوروبيّة المعروفة بالحربين العالميتين الأولى والثانيّة ) ، فإنّه من المستحيل القفز على حقيقة الجغرافيا وتداعيات تأثيراتها ، فالتواصل الجغرافيّ التركي ــ السوريّ ومثله التركيّ ــ العراقيّ يفرض خصوصيّة علاقات لا يتمتع بها واقع الإنفصال الجغرافي التركي ــ ببقيّة الإمتداد العربيّ ، لا في المغرب العربي ، ولا في المشرق العربي ، فضلاً عن جنوب جزيرة العرب ، بل ويصبح التواصل الجغرافيّ التركي ــ السوريّ ومثله التركيّ ــ العراقيّ لازمةً بنيويّةً وبوابة وحيدة ، تفرض حتميّ عبورها على ــ ولأيّ بناءٍ علائقيّ استراتيجيٍّ ثابت بين الدولة التركيّة وكلّ أصقاع العرب ، وبالتأكيد لا يشكّل البحر الأبيض المتوسط بديلاً للتواصل البريّ أعلاه وإنْ شكّل البعد الرديف بين جغرافية أطرافه ، والتي لا تختلف عنها بين الشمال الأفريقي وجنوب أوروبا . يُضاف إلى الحقيقة الجغرافيّة السابقة حقيقة ديموغرافيّة كرديّة على طرفيّ الحدود ( التركية ــ العربية من ناحية والتركية ــ الإيرانية من ناحية أخرى ) تمتعت بخصوصيّة المسكوت عنه في السياسات المتبعة إلى الأمد القريب ، حيث برز إقليم كردستان في الشمال العراقيّ بعد الإحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣، واعترفت السلطات السورية بالمشكلة المزمنة لمواطنيها الأكراد في الشّمال الشّرقي السّوري عبر التصدي لملف ( التجنيس ) ، ورفع الظلم التاريخي عن تلك الشريحة من المواطنين.

بينما ما زال الجانب التركي يختزل مشكلة مواطنيه الأكراد إلى بعدٍ أمنيٍّ بحت ، منذ أكثر من عقدين أو يزيد ، بل ويصرّ على رؤيته الضيقة المتأزّمة تلك فهماً ونهجاً وحلول ؛ تلك الحقيقة الديموغرافيّة ــ التي لا يمكن تجاهلها ــ تلعب دوراً مؤسِساً وأساسيّاً في العلاقات بين تركيا والعالم العربي ، في كلّ تمظهراتها ، الإيجابيّة والسلبيّة ، يفوق بما لا يقاس ما يُعزى من أدوار وتأثيرات للخصوصيّات المعزوّة للأقليات الأخرى بكل تلاوينها . من هنا فإنّ تتبع مختلف جوانب الأزمة السوريّة في تطورات أيامها وساعاتها الأخيرة ،داخليّا وإقليميّاً ، عربيّاً ودوليّاً ، يجعل من العامل الجغرافي ( التواصل البريّ للجغرافيا السوريّة ــ التركيّة) والتداخل الديموغرافي ( الأقلوي على جانبيّ الحدود ) مسألتين تلقيان بتأثيرات خصوصيّاتهما على المجريات اليوميّة للأزمة السوريّة بشكل لا يشبه أو يتشابه مع الحالات الأخرى المستدعاة على حدود سوريا مع العراق أو لبنان أو الأردن لأسباب متعددة منها :

١ــ القوة الإقليميّة للدولة التركيّة من ناحية وأطلسية دورها التاريخي المعروف من ناحية أخرى .

٢ــ طموحات الدور التركيّ التي لم تعد تخفيه سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية إقليميّا وحتى أطلسيّاً في صراع القوى والمصالح الدّوليّة في منطقتنا ،خاصّةً بعد بروز التسابق على الإستحواذ على مصادر الطّاقة المتوقعة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط .

٣ــ عودة الدور التركي إلى الإنسجام الكليّ ،والإنضواء بلا مواربة ــ رغم قنابل الدخان السياسيّ الدّعائيّ والدعاوي ــ مع سياسة الإدارة الأمريكيّة الراهنة في مرحلة الإنسحاب الأمريكيّ من العراق ، في رصٍّ صفوف للإصطفاف (الأطلسي ــ الإعتداليّ العربي ) بمواجهة الجبهة المقاوِمة المتبلورة في قوسها من إيران إلى فلسطين ــ كما يتوقع المراقبون ــ بعد إنجاز الإنسحاب الأمريكيّ المبرمج من العراق في نهاية العام . ٤ــ اشتداد الهجمة شراسة على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة واستهداف سياستها بالإتهامات ــ حتى السينمائيّة رديئة الإخراج ،مثالها الآني : مخطط اغتيال السفير السعودي لدى الولايات المتحدة الأمريكيّة ( عادل الجبير) ــ والمؤتمرات والقرارات والتسريبات لأخبار خطط مناورات عسكريّة صهيونيّة ميدانيّة ناجزة ، والتي ــ حسب ذات التسريبات ــ لايمنع وضعها موضع التنفيذ إلّا خلاف إجرائي ( أمريكيّ ــ صهيونيّ ) يتعلق بالتنسيق بين الطرفين فقط لاغير ، أي أنّها قضيّة توقيتٍ لا أكثر !!! زد على ذلك نشر اشاعات صفقات تسليحيّة لذخائر نوعية ( صفقة ٣٩٠٠ قنبلة خارقة للتحصينات بين دولة الإمارات العربيّة المتّحدة والولايات المتّحدة الأمريكيّة ) ، وإدخال سلاح الجوالأمريكي القنبلة العملاقة الخارقة "" للبلوكوزات "" زنة ١٤ طن ، أحدث منتجات شركة "" بوينغ "" التي تحملها الطائرات القاذفة المقاتلة " ب٢ " التي لا تكشفها الرّادارت ، إلى آخر ترسانة الحرب النفسيّة والميدويّة المدروسة والمكثّفة ، لا ضدّ إيران فقط ، ولكنْ ضدّ القوس المقاوم من إيران إلى فلسطين ، مروراً بالسّاحة اللبنانيّة وانقساماتها ، ومحاولات إشعال تناقضاتها ، على أنّ الحلبة الساخنة تبقى الأزمة السّوريّة وتسارع تطوّر سيناريوهاتها ، ما طُبّق منها أو ما هو قيد التنفيذ ، أو البدائل المحتملة من خططها فعلى ما يبدو أنّه :

أولاً ــ ثبت استحالة السيناريو ( التونسي ــ المصري ) في سوريا ، لانتفاء إمكانيّة الوقيعة والفصل بين النظام ورأسه كما حصل بين الرئيس التونسيّ المخلوع ( زين العابدين بن علي ) ونظامه ، هذا الرئيس الذي لم يستجب لصيحات الجماهير الغاضبة ــ كما يشاع ــ أبداً ،دون استهانةٍ منّا بإرادة تلك الجماهير وتضحياتها ، ولكنْ كان للأمر الأمريكي له بالتنحي فصل القول وفيصله ، ولتخلي جيشه عنه طلقة الرحمة على رئاسته ، تماماً كحالة زميله المصري المخلوع الآخر ( حسني مبارك ) ، مما لم يتوفر في سوريا فلا الجماهير المليونيّة احتلت الساحات ، خاصّة في الحواضر المدينيّة الكبرى ، ولا النظام ضحّى برأسه ليستمر في حماية شخصيّاته ، ومواقعه ومصالحه ، بل على العكس تماماً فلقد تشخصن النظام في رئيسه كحامل مشروع مستقبل الإصلاح والتغيير ، ووحدة الوطن وسلامته ، فضلاً عن أنّه ليس معروفاً عن الرئيس الأسد استزلامه أو تبعيّته لروما العصر ( الولايات المتّحدة الأمريكيّة ) بل إنّ كل مواقفه وسياساته تجاه اليانكي وسياساته تُذكّر بتاريخٍ كتب على أرض سوريّة أيضاً ، تاريخ الملكة ( زنّوبيا ) وهي تتصدّى لـجبروت ( روما ) غير عابئة بالثمن ، وفي حسابها الأخير ما تورِّثه للأجيال من تاريخٍ تفخر به وتبني عليه .

ثانياً ــ سقط السيناريو الناتوي الليبي اعتباراً من لحظة إشهار الــ ( الفيتو ) المشترك ( الروسيّ ــ الصينيّ ) بوجه المشروع الغربي ( الفرنسي ــ البريطاني ــ البرتغالي ) المقدّم إلى جلسة مجلس الأمن لإدانة العنف ""الدّولتيّ من وجهة النظر الغربيّة "" في سورية مع ما يترتّب عليه من قرارات وإجراءآت دوليّة مناسبة لاحقة .

ثالثاً ــ يبقى النموذج العنفي الذي نشهده بكل عوامله ومحفّزاته ،تمظهراته ونتائجه وتمخضاته ، فليس مصادفة الإقرار وإنْ مخاتلةً بوجود جماعات العمل المسلح في الشارع السوري من قبل مجموعات معارضة الخارج ( المجلس الوطني السوري برئاسة السيد برهان غليون، مجلس الإنقاذ السوري برئاسة السيد هيثم المالح ، رئيس التنسيقيّات السيد محمّد رحّال ، إلخ من الرؤساء الكثر والناطقين والناشطين والمحللين والمحرّمين الذين يملؤون الشاشات المتحفزة المتحمسة ولله فقط ولعيون الثوّار السوريين الأشاوس ) !!! ، مقروناً دائماً بلازمة التبريرات والتأكيدات ، من مثل حقّ الدفاع عن المظاهرات السلميّة !!! من قبل ( المنشقين الشرفاء عن الجيش المجرم المحتل !!! ) ، ومسؤوليّة النظام عن أسباب العنف وتسبيبه ، بعد طول نكرانهم (مجموعات معارضة الخارج ) للعنف الذي مارسه "" هؤلاء السلميون المسالمون "" الذين طالما سخر الذين نصّبوا من أنفسهم ناطقين باسم ( الثورة السلميّة ) من الإشارة إليهم بـ ( المندسين ) من قبل السلطات التي أصرت على التمييز بين هؤلاء ( العنفيين ــ الوظيفيين ) وبين المتظاهرين السلميين حقاً أصحاب المطالب المشروعة المحقّة ،التي استغلّ هؤلاء العنفيّون حِراكها ، لتتتالى التصريحات ــ التدخلات ، ومن قبل الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية ، الذي سمح لنفسه بالطلب من المسلحين عدم الإستجابة لبيان وزارة الدّاخليّة السّوريّة المانح للمسلحين ــ الذين لم تتلطخ أياديهم بالدماء ــ العفو لقاء تسليم سلاحهم وجنوحهم للسلامة والسلم ، ثم ليُعلَن من تركيا ، وبشكلٍ شبه رسمي " تركي " ، وعلى لسان العقيد الفارّ ( رياض الأسعد ) المستلم من نفسه قيادة ( الجيش السّوريّ الحرّ ) !!! ( يذكرني بجيش لبنان الحرّ ) أنّ جيشه العرمرم بالآلاف ( ١٠ ــ ١٥ ألف ) قد بدأ عملياته ، وأمّا ميدانها فعلى اتساع الساحة السورية ، وبنك أهدافها هي ــ بتواضعٍ ــ كل الجيش العربي السوري وأمّا التسليح فهو خفيف إلى متوسط ، ومصدره ــ وهنا تبلغ الملهاة قمّة بلاهتها ــ هو المُشترى من عناصر ( الأمن السوري الفاسدة ، حسب قوله بالحرف ) ، فتصوروا عناصر أمن تبيع سلاحها ، وتعود لتنام قريرة العين بعد مائدة عشاءٍ عامرة ، دون مجرد سؤالها أو مساءلتها عن سلاحها ، وفي كل جيوش الدنيا يحاكم العسكري "" ميدانيّاً "" على مسؤوليته لمجرد فقدانه سلاحه ، ولو ضياعاً فكيف بالبيع ؟ !!!

حقاً لقد أجبرني ذلك الرجل على الشّك بقدراته العقليّة ، لا بحثاً عن أسباب مخففة لارتكاباته ، بل لازدراء منابر توفرها الغرضيّة والتعبويّة الميدويّة المنحازة لأمثال هؤلاء ، ضاربة عرض الحائط بوعيّ المشاهد وحقّه في الاحترام وخاصّة احترام مداركه ككائن عاقل ؛ إلّا أنّ ( جيش النكتة هذا ) يجب النظر إليه بجديّة لتواجده على أرض دولة تركيا التي يعلن مسؤوليها تدخلها في الشأن السوري الداخلي ،بل وصرّح رئيس الوزراء التركي السيد ( آردوغان ) أنّ الوضع في سوريا شأن داخليّ تركيّ !!! فهل يشكل هذا ( الجيش الفرقعة ) صنف من النوع الطرواديّ الزائف لما يستقبل من الأيام ؟ !!! فإذا أُضيف للمشهد الإجتماع ( العربي ــ التركي ) في المغرب ، ومقررات اجتماع وزراء الخارجيّة العرب الذي رافقها ، وقراره التعجيزي التدخلي بالطلب من سورية التوقيع خلال ثلاثة أيام ــ وقيل بلا اعتراض أو نقاش !!!ــ على بروتوكول ( لجنة المراقبين ) في قفزٍ استفزازي على تمتع سوريّة بصفة ( الدولة ذات السيادة ) وبلغة تخلو من لياقة التخاطب الدبلوماسيّ ، بل وبلهجةٍ مهددةٍ متوعِدة ، وانبراء المراقب العام لجماعة ( الإخوان المسلمين ) في سوريا ( السيد محمّد رياض الشقفة ) إلى الطلب من تركيا التدخل في سوريا وإنْ بمخاتلة فاقعة ، في تناغمٍ مع جوقة الحرب النفسيّة المستنفرة ، تصبح الصورة أكثر جلاءً في تظهيرها . فهل السياسة التركيّة الحالية ستجرّ بلدها إلى الدور الذي اضطلعت به ( الإرجنتين ) في ( نيكاراغوى ) السندنستية عام ١٩٨٧ فيما عُرف بحرب ( عصابات الكونترا ) بدعم وتمويل من إدارة الرئيس الأمريكي ( رونالد ريغن ) حينها ؟ !!!

وأمّا اليوم فتمويل الدور التركي سيكون عربيّاً بلا أقنعة ، وستكون الرعاية والتوجيه أمريكو ــ صهيونيّ بكليّته كما أصبح التصريح به بلا حاجة للإستنتاج أوالتلميح . سيناريو بديل الحرب التي تُرجَّح استحالتها ، لأسباب ليس المقال مجال حصرها ، سيناريو لا يتمنّاه وطنيّ لوطنه . وأعود إلى التشديد على عامل الجغرافيا الذي يسمح باستدعاء نموذج ( عصابات الكونترا ) وييسره ولو مخياليّاً ، بالمقابل فخصوصيّة العامل الديموغرافي العابر للحدود ( السّوريّة ــ التركيّة ) يلعب واقعيّاً ضدّ تطبيق النموذج النيكاراغوي المُستدعى ، ولكنْ تبقى للسياسات الحمقاء المندفعة ــ خاصّة بعامل الإنتهازيّة السياسيّة ، ويقينيّة تقريريات الإيديولوجيا ــ أخطاؤها المرعبة وحتّى القاتلة .....


ليست هناك تعليقات: