لعلّ المثقّف العربيّ يقف ــ بتواضع العاجز المُكرَه ــ في طليعة المتفاجئين بمحدوديّة دوره في الحراك الإنتفاضيّ الأخير ، وليس الثوريّ كما يصرّ البعض المأخوذ بحماس شعبويٍّ يستسهل التسمية وتسطيح المفاهيم ، هذا الحراك الجديد الديناميّة على الشارع العربيّ فاجأ المثقف بتهمة كساحٍ بنيويّ المضمون ، لا نمطيٍّ شكلانيّ الهيكل فقط ، مما دفعه إلى ترك الشارع الى أرصفته ، لاعن طيبة خاطرٍ أبداً ، ولكنْ بقبول مما لا بدّ من الإقرار به أمراً واقعاً وعجزاً موصوفا ، " قبول ــ تموضع " ليس للفوز باستراحةٍ قسريةٍ على رصيف مزدحمٍ ، لا يسمح مطلقاً بمثل ذلك الترف السّفيه في ظرفه الضاغط القائم ، ولكنْ لإعادة تموقعٍ في موقع رصد واقعٍ حيويٍّ ، متغيّر الملامح ، واضح التعبير عن مطالب أساسيّةٍ ، وحاجاتٍ ــ مسلّماتٍ دُفعت ــ دعاويّاً ــ إلى مصنفات علا الغبار رفوفها حتى احتُسبت في ذمّة النسيان
بل وإلى وقفة التقاطٍ للأنفاس بمراجعة مفاهيم وأدوات وأساليب ، وممارسة نقدٍ ذاتيٍّ ، يملي استحقاقاتها الضاغطة ، ما فرضته ــ بقوّة الوجوب ــ ديناميّة الشارع المنتفض ، بكشفٍ صادمٍ لما انطوت عليه صفة المثقّف من شوائب تستوجب التشذيب ، وما عانته الثقافة الحقيقيّة من تهميشٍ ممنهج ، لصالح طوفانٍ ثقافويٍّ نكوصيٍّ ، مُغرِقٍ في الماضويّة ، والإرتداد إلى عصور وأيام عفى زمانها ، وأصبحت من طوارق الحدثان ، ليأتي هجوم بعثها والنفخ في رمادها ، خاصّة الحَوْليّ منها ، وعلى الخصوص ، الدراميّ الرمضانيّ الملفت ، وجعلها لازمةً لصيقةً بركن الصّيام المقدّس للمجتمع المسلم الدين ، وخصوصيّة شهره الرمضانيّ ، التي لا يجاريه فيها شهر آخر ، وتسويقها الترويجيّ كالقضاء الماحق ، وبقدرة البترودولار ، وإملاءآت مالكيه من أصحاب الأدوار الوظيفيّة ، والذهنيّات المتصحرة ، لا البدويّة ــ المستحاثيّة فقط ، في عصر العلم والمعلوماتيّة والعالمٍ المعولَم .
( مع كامل اعترافٍ وموفور احترامٍ لكلّ ما أنتجته البداوة في زمانها من إيجابيّ القيم ، وبليغ الشعر والنثر ، ومكارم الأخلاق ) ، وخاصّة بالدّور الذي وفّره ازدحام أقلام كتبتهم المستأجَرة ــ بالقطعة حيناً وبالجملة أحياناً ــ في إغراق حواس المدركات الآدميّة بانتاجٍ ثقافوي يشبه الطوفان بغزارته ، والرعد القاصف في جلجلته ، وبتلميعه كبريق يخطف الأبصار، مسخِّراً له آخر مبتكرات التكنولوجيا وحديث وسائل النشر والإتصال والإنتشار .
ومع أنّ تموضع المثقّف العربيّ على رصيف الشارع العربيّ المنتفض ليس طرداً ــ قسرياً صريحاً ــ مورس عليه ، ولا خروجاً أو إخراجاً من ذلك الشارع ، مطلقاً ، بل في الجانب الأعظم منه كان خياراً إرادويّاً ، اقتضاه وعيّ اللحظة الفاعلة في ديناميّة حراك الجمهور المنتفض ، فما زال المثقّف ــ وبحكم ضروريّة الدّور ــ مدعواً إلى موقعه الطبيعيّ في قلب الحراك الجماهيري ، عطاءً فكريّاً ومساهمة واعيّة ، مشارِكةً الجماهير طريقها إلى تلبية حاجاتها وتحقيق مطالبها التي خرجت منتفضةً وراءها ، لذلك ــ وكما وسبق التنويه إليه ــ فإنّ وقفة التقاط الأنفاس ــ تلك ــ تقتضي في شموليّة المراجعة النقديّة للوسائل والغايات:
أولاً : مراجعة الذات ونقدها ، سبيلاً للإمساك بالتوجه ،
ثانياً : للوصول إلى الغاية ، وتصحيح ما كشفه واقع الشارع من عِوَرٍ تموضعيٍّ للمثقّف أقعده جزئيّاً ، ومن خللٍ في سلامة الأدوات وظرفيّة استعمالها ، أتاحت تناوله في مقتل ــ كما يتردد من الإشارة إلى عجزه ، ورصيفيّة موقعه الحاليّ ــ لعلّ أقلها تهميش بناء الثّقافة الحقّة ، أو محاولة حصارها ، والحطّ من دورها
كما أشرنا سابقاً :
أولاً ــ نقد المثقّف لذاته : إنّ توخّي الحذر في ممارسة نقد المثقّف لذاته ، تفرضها ــ ولا تبررها فقط وتجعلها مفهومة ــ محاولة الإمساك الصعب بموضوعيّة رؤيةٍ ، تحاول الإفلات والتحرر من ميلٍ ذاتيٍّ ــ مفهومٍ أيضاً ــ نابعٍ من جعل المثقّف موضوع محاكمةٍ يلعب فيها ذاتهُ ــ المثقّف ــ كلّ الأدوار : المتّهَم بحصريّة التهمة ، والمُدّعي المتّهِم ، والقاضي النّزيه بالمطلق ــ كما يُفترَض ــ ، والدّفاع الذي لا تقبل منه ممارسة الحيل ( القانونيّة !!) الشائعة ، من مثل القول المألوف بـ ( واجب إخلاص الموكَّل في تبني قضيّة الموكِّل ) وهو في الممارسة اليوميّة من صنف ( قول حقٍّ صادحٍ يُراد به باطل متاح ) ، أو السقوط في خطيئة خيانة الموكِّل والغدر بأمانة ثقته ، بتركه بلا صادق التبني أوقوة "الحجّة ــ الدفاع" ، أو واجب تقديم صريح النصح وأقومه ، إنّ دور محامي الدّفاع محوريّ ، في وجه ادعاءٍ مركّبٍ ( موضوعيّ ــ ذاتي ) ، وخاصّة ( نحن ــ أنا ) ، دون إقصاءٍ لـ ( هم ــ أنا ) ، بلا عملقة طاغية أو تقزيمٍ مقصود ،
فليس من الإنصاف في شيءٍ استسلام المثقّف ( للغة تعذيب الضّمير) بسبب انحطاط واقع هو جزء منه وليس بمبدعه ، بل ــ وبحقٍّ لا يُمتر فيه ــ هو إحدى ضحاياه الواسمات للظلم الشامل المستبدّ ، والظلاميّة القاتلة القامعة المعادية في جوهرها لطاقة الخلْق ومعنى الإبداع ، أواستغراق بعضه ( المثقّف ) في " مازوشيّةٍ " تطهُّريّةٍ ، مبدِّدة لطاقة الخلق ، في شعورٍ إشباعيٍّ مرضيٍّ وإرضائيٍّ ، بتسديد " الثمن ــ الدَّين " المتوجب على المثقّف ، بإدمانه طقوسيّة جلد الذّات والحطّ من شأنها ، إنْ لم يكنْ احتقارها قيميّاً ، بشيطنتها وتحميلها كلّ الآثام ، في صورةٍ تُبرز نرجسيّة المثقّف ، لاطهره أو صفاءه ، بل تكرّس نظرته النمطيّة إلى نفسه استثناءً لا يشبه الآخرين !!!
مما يردده ـ مؤخراً ــ بعض المثقّفين في توصيفٍ بينيٍّ ، فهذا طوباوي ومثاليّ ، وذاك عاجيّ الموقع متعالٍ ومعزول ، أو متعبٍ مستكين يائس قانط ناقم ، أوآخر يعيش الأيديولوجيا واقعاً إسقاطيّاً ، بلا نبضٍ لحياةٍ من حقيقةٍ معاشة ، مع أنّه ــ وعلى ضوء ما كشفه الحراك الحيّ للشارع العربيّ ــ من إمكانيّات ، فقد أُعطي المثقّف " اللحظة ــ الفرصة " لاكتشاف عضويّة ارتباطه بالفعل المجتمعيّ وانتمائه الحكميّ لديناميّاته ، التي لاتتصف دائماً بالكمال ، وهذا طبيعيّ ، رغم الحركيّة التي تبلغ أحياناً درجة الغليان ، بل والتّفجر كما نشهد ونعيش ، فالمثقف ليس من جنس الملائكة المتسامية ، وليس بالنبت الشيطانيّ المزروع ، إنّه فرد من جماعةٍ ، إنتاجُ مجتمعٍ ، ومساهم في إعادة إنتاجه المستمر التطوّر ، فيه كلّ خصائصه ، سالبها والإيجابيّ ، المكتملة والقاصرة ، وإنْ بتفاوتات ، ومنها صفته ــ الوظيفة ( مثقّف ) ، في تعريفٍ له ، وإقرارٍ بدوره كميّزة ، وليس امتياز ، ولذلك يصبح المطلوب منه يتعدّى ــ نوعيّاً ـ ما يُطلب من سواه ، فموقعه ــ الوظيفة ( مثقّف ) يُرتب عليه تجاوز الواقع رؤيوياً ، لتطويره باستشراف المستقبل ، وتحصينه في ساعة المحن من تفعيل عوامل الهدم والنكوص ، لا بالقفز على الواقع بالترفع البرجيّ عنه ، ولا بانسلاخٍ عنه إلى آخر متاح ، واقعيّاً متغرّباً أو متخيَّلاً ثقافوي ، مما يجعل من بعض ما يُطلب من المثقّف ــ أحياناً ــ وخاصّة من بعض المتثاقفين ، ما يشكلّ مادّة إساءة استخدامٍ لدوره وجهلاً بمقاصده ، فضلاً عن محاولة " كاريكاتوريّة " المثقّف ، بحشره في الحارات الضيقة وإلزامه " زواريبها " باسم الإلتزام وقضايا الجماهير !!! بمفرداتٍ وجمل شعبويّةٍ ، تمسخه بقصورٍ رؤيويٍّ فاضحٍ ، إلى عضوٍ مأزومٍ في عصبةٍ شعاراتيّة ، وشلّة هتّافين ، لا رياديّة لها ولا رؤيويّة ، بل تابعة للشارع ، لاهثة وراء مستجدّاته ، وصّافة لمشهديتها ، في تصويرٍ بالكلمات ، أصبح لغواً ، بعد أن اجتياحت إمكاناته المحدودة ، تقنيّات التصوير الرقميّ الحديث ، لا بالصوت والصورة فقط ، ولكن باللون وزاوية الرؤية والحركة الحيّة ، وبالأبعاد الثلاثة في تجسيم متاح ، يمكِّن من تحقيق أمانة نقل الحدث ، أو تزويره ، حسب المرسوم والمراد .
ولعلّ استعمال مفردة " مثقّف " على إطلاقها ، يبلغ حدّ الهواميّة والتعمية القصديّة ، في التعامل معه كتلةً مصمتةً واحدة ، تقفز على التّنوع الغنيّ القائم ، والتناقضات الحتميّة فيها ، بحكم تنوّع المشارب الثقافيّة ، وتفاوت القدرات الفرديّة والجموعيّة ، في الفهم والإستيعاب ، في القدرة على بلورة الإنتماء ، واختلاف وجهات النظر في قيميّة الثقافة ودور المثقّف ، وإخضاعهما لمعايير مختلفةٍ ، تحترم تنوعات المجتمعات المختلفة الحاضنة لهما ، ولادةً وتطوّراً ووظيفةً ، بل وتنضبط بتغيّر وتطوّر المعايير ذاتها بحكم حركيّة الزمن السرمديّة اللامحايدة ، في ديناميّةٍ دائمةٍ حيّة ، متفاوتة الحيويّة ، بين لحظةٍ وأخرى ، بين صعودٍ لولبيٍّ المنحى مثمرٍ ، وثعثّرٍ سكونيٍّ عقيم ، لكنْ لاهبوطيٍّ أوتراجعيٍّ أبداً ، فلا سبيل لإلغاء بعد الزمن ، ولا مجال لإهمال التراكم المعرفيّ ، فحتى النكوص والردّة لا تخرجان عن كونهما إنتاج ديناميّات فعلٍ يفرض إضافته المعرفيّة ، ولو السلبيّة المعطّلة لإيجابيّ التطوّر الحتميّ للمجتمع ، بل وفي ذات المجتمع الواحد ، من تلك الوقائع ــ المسلّمات تصبح مخاطبة المثقّف ككتلة متجانسة واحدة ، محاولة إلغاءٍ متعمَّدة ، وعدوانيّةٍ مضمَرةٍ حيناً ، سافرةٍ أحايين ، وأشدّها حين تنتقل إلى صراع ثقافات وظيفيّة هادفة ــ ولا ثقافة بلا وظيفة وهدف ــ في بحث محمومٍ عن " شخصنةٍ ــ ضحيّةٍ " يكون الإجهاز عليها ــ كما يُتَخَيّل ــ إعلان انتصارٍ نهائيٍّ ، لم يثبته التاريخ يوماً ، ولا أعتقد أنّ له من مكان في متن بناء المستقبل ، تلك النقطة وسواها سيكون لهما توقّف ووقفة في : ( ثانياً ) ــ الجزء الثاني من المقال
( يتبع ) ــ .