إيران...الصين...والشبكة العنكبوتية
بقلم الدكتور: مـنير القـوي
القسم الأول :
عن إيران
اضطرابات في كلا الدولتين ،وفي كلتاهما يُشار باصابع الإتهام إلى شبكة "الإنترنيت"... إلى مراكز السيطرة على مصادرها ،وإلى الذين يسيِّرونها ،يستغلون إمكانيّاتها في التواصلية اللحظية ،وفي اعتماد وسائل "الميديا" الحديثة التي تمكِّنها من التعميم الكوني للمعلومة التي تختارها ،وللرأي الذي تنتصرله ،وبالتأكيد ،فإنَّ مراكزالسيطرة تلك ،والذين يسيِّرونها ،ويقفون وراء غرضيّات استخدامها ،ليسوا بالمحايدين ،ولم يدِّعوا يوماً "شرف الحياد " ،أويُخفوا انحيازهم الصريح ،بل إنَّ خطابهم التربوي ـ الأبوي ،الإستعلائي ـ الوصائي ،والتدخُّليّ الفجّ :لأوقح في سفورهِ من الفجور.!!
ــ وخارجهما ـ وخاصة في الغرب ـ ترتفع الأصوات مُندِّدةً بقمع الحريات الأساسية ،المكفولة بضمانات شرعة حقوق الإنسان ،والمواثيق الدولية ذات الصِّلة ،ومستنكرةً صورالممارسات العنفيّة لأجهزة الدولة "الأمنية" !!.
ــ هكذا تبدو لوحة ساحة المواجهة في صراعٍ مقيمٍ ،وقوده إنسان تحركه ايديولوجيات تدّعي ناجع الحلول لحاجاته وأزماته ،ومصالح متصارعة غالباً ،أومتلاقية أحياناً ،تقف وراء تلك الإيديولوجيات ،المختلفة من منابع صدورها وإلى مثاوي اعتناقها ،فلكل صوتٍ أسبابه ومنطقه ،بعضها القليل : مُحقّ بحقّ ،ومعظمها الأعم : مغرض وباطل .ـ
ـ صحيح أنَّ في الحالة الإيرانية سبب مباشر لاندلاع الإضطرابات ،ألا وهو نتائج الإنتخابات الرئاسية المختلف على نزاهتها ،والتي حُسمت رسميّاً بإقرار إعادة انتخاب الرئيس (أحمدي نجاد) لرئاسيّة ثانية ،ولسنوتٍ أربع قادمة ،لكنْ هل انتهى الحراك المجتمعي ؟
إذْ ليس كافياً اتهام الخارج المغرض بالتدخل ،وهو تدخل مُدان ،واضح لا يخفي حضوره ،بل يتعمد ،وبوقاحة وصفاقة ،تغليف أغراضه ،وكعادته ،ببرّاق ذات الدعاوى : حقوق الإنسان وما يتفرع عنها ويلحقها من حرية التعبير ،والإضراب ،والتظاهر"السلمي!!"،إلخ....حتى إذا وصل إلى حريّة التنقل والسفر أوقف دعاويه على أبواب سفاراته ،وابتلع شعاراته ،وأشهر سلاح الـ " فيزا" المقدّس ،وممارسته تلك : أمر سيادي !! وعلى الرأس من أهدافه :حماية مجتمعاته ،وسلمه الإجتماعي !! وممن ؟!! من ذات الناس الذين يتباكى على ما يلحق بهم من " ظلم" على يد السلطات في بلدانهم !!. والمضحك المبكي ،أنّ هؤلاء الناس لا يُوجَدون ،ولا يتألمون ،إلاّ في البلدان التي تتعارض سياساتها مع سياسات الغرب الهمايونية ،ومفاهيم ثقافته التفوقيّة ،وهيمنة عولمته الإخضاعيّة !! كل ذلك معروف ،واضح ،ومستمر ، ومع ذلك فالحراك المجتمعي قائم ومستمر أيضاً،حقيقة يجب ،ليس فقط الإقرار بها ،بل واحترام ديناميّاتها ،والإستجابة لحاجاتها التطورية ـ المطوِّرة المتجددة ،لكي تثمر في مشروع مساراتها ، فلا تخرج إلى مسارب الإستغلال ، فتنحرف ،أو تُحرَّف :
1ـ بإرادةٍ داخليّة مُعارضة ،خارج سلطوية ،أومُغرضة ، دائمة الوجود ،كموناً متربص ،أو فعلاً هدّام ، أو في الحدّ الأدنى : سلبية تعاطٍ مع السلطات القائمة ،هذا في حال صحة تمثيل تلك السلطات ونظامها لسمتِ ديناميّة إرادة جمهور مجتمعات دولها .
2ـ بإرادةٍ خارجية ،دائمة الوجود ،تبحث عن مصالحها بكل السُبُل المتاحة ، بغض النظر عن معايير الأخلاق المتعارف عليها ،والتي تَضْمُر في حضورها حين تتعارض مع المصالح إلى حدّ إنكارها ،أو الأدهى : تسفيهها وإحلال قيم النقيض في ذات مكان قدسيّة تمجيدها !!!
3-ـ بمحاولة اللعب من بعض أجنحة النظام القائم ،لفرض وجهات نظرها ،أو البرهان على صحة توجهاتها بشهادة الشارع المعبِّر عن استيائه ،من بعض السياسات المطبقة من قبل الجناح القابض على ناصية السلطة .
فمحاولة استغلال مظاهر الإحتجاج على نتيجة الإنتخابات الرئاسية في الشارع الإيراني ،والممارسات التخريبيّة التي مارستها "قِلَّة" ،أخذت العدالة على عاتقها البتّ في تحديد المسؤوليّة عن افتعالها ،لا يحتاج لبرهانها متابع ،ومع ذلك فإنَّ إحالة المسؤولية عن الأحداث وإلقائها على الآخرالمُغرِض (العدوّ الخارجي ، شيطان أكبركان ،أوأصغر،أومن ضعاف النفوس الذين يسهل شراؤهم بأساليب شتّى ....) لايمكن الركون إلى جديّة وحدانيّة خطابها ،بل يمكن قبولها ( مسؤولية الآخر المغرض ) عاملاً تدخليّاً مساهماً في إذكاء جملة أسباب ولادة الأزمة ،وربّما توقيتها ،دون قبولٍ وبالمطلق ،بمسؤولية هذا ( الآخر المغرض ) عن خلق تلك الأسباب أواختلاقها ،والتي تكمن أساساً في تراكمات ثلاثين سنة من عمر الثورة الإسلاميّة في إيران ،فتلك الثورة التغييرية الكبرى ،بل والجذرية حتى ليجوز وصفها بالـ "انقلابيّة"بحقّ ،تماماً كالثورات الكبرى :البلشفية السوفيتية ،والصينية الشيوعية ،قد وصلت إلى استحقاقات عبر تسلم الحكم والمسؤوليّة في " ايران ـ الدولة والمجتمع "،لابُدَّ من الإجابة عليها بطريقة عمليّة ،فالذين وُلدوا عند انتصار الثورة عام ١٩٧٩ يدخلون إلى رحاب العقد الثالث من عمرهم ، هؤلاء لم يعانوا حكم الشاه (محمد رضا بهلوي) ،ولا جهاز السافاك ،وما يعرفونه عن ذلك الماضي قد يكون مشوشاً بالكثير من مفاهيم الدعاوى المضادّة !! وعلى كلٍّ فهو ماضي أو منه ،ثم إنَّ الثورة الإسلامية في إيران قد مرّت بامتحانات ،بعضها بل جلُّها محن حقيقية ،فحرب "الإحتواء المزدوج"العراقيّة ـ الإيرانيّة !! ولسنواتٍ ثمانيّة طوال ،جعلت الكثيرمن مسلمات ايديولوجية الثورة موضع تساؤلٍ ومراجعة ،وأيقظت من تناقضات الماضي أسوأ أطيافها ،والأشد سواداً من صفحاتها ،طبعاً بجهدٍ مبرمجٍ ومدروس من فرق (الغرف السوداء )إياها ،اليقظة دائماً في سهرها على تطويرسيرورات استراتيجياتها ،التي يفوح ـ أبداً ودائماً ـ من تكتيكات وضعها في التطبيق رائحة النفط والبارود والكثيرمن دماء الشعوب ،فضلاً عن تعرية وانكشاف الكثيرمن الأدوات ـ الأدوار .
ثُمَّ إنَّ الزخم الثوري للمرحلة الخمينيّة قد خفَّ وهجه مع الزمن ،وتلك طبيعة الأمور ،خاصة في ميادين العواطف وعواصف الإنفعالات ،التي تخلي مكانها تدريجيّاً وبهدوء لعقلانيّةٍ تعرف أنَّ مكانها محفوظ رغم علو الموجة ،و تبخترزائل الزبد،ربّما بدأ ذلك منذ نهاية الحرب ـ المؤامرة (وعلى إيران والعراق سواء بسواء) عام ٩٨٨ بتوقيع المرجع آية الله ،روح الله الخميني على وقف الحرب ،وخاصة غياب الحضور الكاريزمي له كقائدٍ للثورة المنتصرة ،بوفاته بعد ذلك بعام ،
ثُمَّ إنّ إيران الخارجة من الحرب ،وبكليتها :سلطة ونظام ،دولة ومجتمع ،وجدت نفسها جريح حرب مزمنة ،يحتاج إلى الوقت لإلتئام الجرح ،ونقاهة الجسد ،فرصة لم تتمكن أبداً من اقتناصها بسبب عداوة البعيد وتربص القريب ،وتغيُّر الموازين الدوليّة كلها بانهيار الإمبراطورية السوفيتية ،ومحاولة الولايات المتحدة ـ الشيطان الأكبر حسب توصيفات الثورة الإسلامية ـ السيطرة على القرار الكوني . كلّ ذلك صحيح وأكثر ، لكنّه لا يصلح بحالٍ لتفسير الكيفية التي تجعل من نتيجة انتخابات رئاسيّة ،وإنْ مُختلف على نزاهتها ،مناسبة لانكشاف نظام ،بل وانقسام ذات النظام على نفسه إلى أجنحة متصارعة ،فالمرشحون الأربعة أبناء شرعيون للنظام ،بل الأبناء الشرعيون له وبامتياز، وأفتاهم هو الرئيس محمود أحمدي نجاد ،فأين التفسير أو محاولته بأضعف الإيمان ؟!!
1ــ المرشحون الأربعة من أعمدة النظام ،حملة أيديولوجيته الإسلامية ،وإنْ باجتهادات متفاوته ،إلا أنها لاتفرط بالأسس الجامعة للتوجهات الكلية وأهدافها ،ومع ذلك فالكليات لاتكفي وتبقى في التفاصيل علة الأشياء ومنها أنَّ الرئيس (نجاد) هو الأكثر تصلباً ايديولوجياً ،والأكثرانفتاحاً اصلاحياً على الصعيد الإقتصادي ،رغم أنّه آخر العنقود عمراً .
2ــ ايديولوجيا الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة مازالت لها ذات المفاهيم السمات والشعارات الثوابت ،منذ ما قبل انتصارها ،وحتى ما بعد استلامها الحكم ،وإلى ساعتنا ،رغم أنّ سياسات الجمهورية الإسلامية الإيرانيّة ـ لا سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانيّة ـ تتصف بالكثيرمن البراغماتية ،الناجحة نعم ،خاصة على الصعيد الخارجي ،ولكنها براغماتية ،ثابتها الوحيد متغيرها المتطور ونفسها الطويل ،مما يجعل محاولة المزاوجة بين الإيديولوجيا ـ الثوابت والسياسات ـ المتغيِّر ،كأساس وبناء عليه ،عملاً مُربكاً أحياناً ،يحتاج للكثير من التحليل والتعليل وربّما التبرير أيضاً !
3ــ الصف الأول في السلطة ينتمي لذات النادي الذي لم يتجدد ،اللهم إلاّ جزئياً بوافده الجديد نسبيّاً :الرئيس (نجاد) وبعض رعيله ،وتبقى السيطرة على مفاصل النظام بيد مجالس تسيطر عليها ،بالأغلب الأعم ،ذات الوجوه منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانيّة ،مما يجعل الأجيال المولودة بعد قيامها (الجمهورية) في حالة بطالة فاعلية في ما خصَّ الشأن العام ،وهامشية قرارية في المسار المجتمعي والتطور الإجتماعي ،بل والأدهى أنها تجد نفسها مطالبة بالإنتماء الثوري المستعد للتضحية بالنفس ،في الوقت الذي لايُعترَف لها بنضجها ،وتُبقى في موقع الأصغر الذي لم يعش لحظة بركات انتصار الثورة ،في تكرارٍ لسابقةٍ :علاقة الصحابة مع التّابعين ،مع أنّه لا فضل لأحدٍ في ساعة مولده ،إنّه تقدير قادرٍ وفضل عليٍّ عليم .
4ــ الأجيال الشابّة لها مطالبها المشروعة ،والمتجددة في عصر اختلف فيه كل شيء ،خاصة في العقد الحالي ،بما شهده من ثورة حقيقية في المعلوماتية وميادين الإتصالات ،وتطور ،بل تغيّر معنى بعض المصطلحات ،كمصطلح : أمّي ومفهوم الأميّة بكل تشعباتها ،وولادة مفاهيم ومصطلحات جديدة : كالعولمة والمواطن العالمي أوالكوني ،وما لحق بها من غسل أدمغة 7/7 و24/24 ،وبوسائل القصف الميديوي فوق ـ الحديث والموجه ،مسفِّهاً كل مفهوم انتماءٍ خاص ،وكل تميّز،محملاً إياه كل الشرور ،في عملية كذبٍ منظم ،وتزويرٍ مدروس ممنهج ،ممكن التصدي لها ( وسائل القصف الميديوي) ؟!! : نعم ،لكنْ ليس بسهولة ولا باستسهال ،وحتماً ليس بشتم الظلام ،أو بالإحتماء الخائب بأساليب الظلامية وإغلاق النوافذ على ضوء الشمس وشعاع القمر.
5ــ نجحت الثورة الإسلامية في إيران بإرساء نظامها ،وهذا بيِّن جليّ ،لكنها لم تنجزبلورة الهوية المواطنية كمجتمع ،فبقي الفرد الإيراني في ضبابية انتماءٍ إلى الإيديولوجي الإسلامي الأشمل والوطني الإيراني المدولن ،لم ينجز الأول بحكم ظروف موضوعيّة مفهومة ،ولايستطيع الإنكفاء إلى الثاني بضرورة الإلتزام بالأول ،فضلاً عن ضغوط المتغيِّرات السابقة الذكروالتي تدهمه .
6ــ إنَّ الظروف التي يعانيها الإنسان الإيراني ،والتي يشاركه فيها السواد الأعظم من شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ،من مجتمع شابّ ،مختلّ التوزيع بين مدينة وأرياف ،مع عدم توازن بين قطاعات الإقتصاد ،واقتصاد ريعيٍ طاقوي ،خاضعٍ لتقلبات الأسواق الخارجية ،وأزمات معيشة ،وسكن،وبطالة ،وسوق عمل لاتمتلك دينامية استيعاب كل الطاقات المتناميّة سنوياً طلباً لفرصتها المشروعة ،وفوق ذلك حصار غربي شبه تام ،وسياسة استنفار مبررة ،بل ضرورية ومحقة ،كل ذلك يجعل الأعصاب مشدودة والنفوس متوترة ،والآراء تحتمل الإجتهادات ،حتى المتضاربة ،المتناقضة ،ولكنها ـ ولابحالٍ ـ تحتمل التصادم والصراع ،في مجتمع فسيفسائي التكوين بأساسه ،في ساعة كثر فيها اللاعبون !!!
وإذاً : لايمكن بحال أنْ تهمِّش أكثرية الثلثين أقليّة الثلث الثالث ،أقليّة تتجاوز الملايين العشرة من الكتلة الناخبة ،وتمثِّل على الأرض ثلث الأمّة الإيرانيّة ،فالتسوية هي الحل ،والحوار هو الطريق ،واحترام المؤسسات هو الضمانة .
وليتذكرالجميع أنَّ إيران بلد بترولي ،وجاره العراق دفع غالياً ضريبة ثروته ،ومازال وإلى مدىً غيرمحسوم ،وأنه علاوة على ذلك مطل على بحر قزوين ومخزونه النفطي ،ويتشارك الحدود مع مناطق ملتهبة ساخنة ،ويقع جيوبوليتيكياً على "درب الحرير"،الذي يبدأ شرقاً من التيبت وأواسط الصين ، "درب الحرير"ويالها من تسمية !! إنّه درب الجلجلة والآلام ، وإلى القسم الثاني مع الوضع المستجد في الصين حيث يبتدئُ "درب الحرير"...........
الأحد، 12 يوليو 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق