الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

العلاقات السورية ـ التركية والأمن القومي العربي ( 5‏ ) :



السيناريو الأسود والبراغماتي " آردوغان " :

بقلم : د. منير وسّوف القوي

اليوم وأكثرمن أيِّ يومٍ مضى ،لا أزال كما كنتُ دائماً ،من الدّاعين ـ بجديّةٍ المسؤوليّة المواطنيّة ،وبصادق الإنتماء العربي ـ لعلاقات ("سوريّة ـ تركيّة") جادّة وراسخة ،لا بل متجدّدةٍ ونامية ،على أساس الإحترام السياديّ المتبادل المتكافئ ،والعمل بموجب المعاهدات الثنائيّة المتبادلة ،نصاً وروحاً ،وباحترام كامل للشرعيّة الدوليّة في إطارها الأشمل الأعم ،دعوةٌ لم ولن تفتَّ في عميق مسؤوليتها وموضوعيّة ضرورتها ،لاغيوم ولا عواصف ،آنيّة أوسابقة ،ولاحتّى مستقبليّة محتَملة ،وفي ابتعادٍ عن الإستسلام لمنطق "نظريّة المؤامرة" دون نفيها بالمطلق ،أو البناء عليها أساساً مقيماً لأسِّ كلّ حدثٍ دّاهمٍ في أصقاع أمّة العرب ،وخاصّة في تجنّب مواقف شخصنة سياسات الدّول ـ كلّ الدّول بالمعنى السياسي للدولة الحديثة ـ تركيّة كانت أو إيرانيّة ، روسيّة كانت أوأميركيّة ،فرنسيّة كانت ...أو ... فالسياسات ترسمها مصالح الدول الفاعلة ،لا "الدول ـ البيادق"،سواء كانت المصالح استراتيجيّة ،أومتغيّرة في إطارها ،أوحتى مستجدة فمعدّلة في مسارها ،وتنفذها (السياسات )الإمكانيّات المهيأة والمعدّة (قوى دول مهيمِنة ،أحلاف استراتيجية ،قديمة قائمة ،أوآنيّة التلاقي على مصلحة مشتركة داهمة)،ومن ضمن تلك الإمكانيّات ،استخدام الدّور الوظيفي للأدوات المحليّة والإقليمية وحتى الدوليّة (الدول ـ البيادق ،الحركات السياسيّة المخترقة أوالتابعة ،بعض المؤسسات ،معروفة التمويل والدّور في كلّ ،ومن كلّ حقب وصوب وصقع ....)،كلّ ذلك في ظرف التحقق المتاح لتلك السياسات ومسرحها الممكن التحقيق والحضور،أمّا الايديولوجيا ـ وحتى المقدّس منها ـ وكلّ الحديث الأخلاقي والتغني الإنساني ،إلى آخر "الموشّح" المكرور حتى الملل ،فلا دور له أكثر من بعض المؤثرات الديكورية ،السمعيّة ـ البصريّة ،وحتى خدعها التصويريّة المتقدّمة بالتقنيّة "ثلاثية الأبعاد" فلا تعدو عن كونها من "عدّة الشغل" ومستلزماته ،وكلّ العزاء ـ بلا شماتة ـ لشاتمي الماكيافيلية الدّائمة (على وزن الثورة الدّائمة)،بالوفاة المستمرة المقيمة لمنطقهم الرّثّ ،المطمئن بسذاجتة، والسقيم برغبويته ـ المهزلة.
وحتى لا نسترسل في مقدّمةٍ قد لا يفها سفربحاله أمام طوفان اللغو "الميديوي"وضجيجه ،وحروب "الشاشات الصفراء" رغم عالي تقنيّتها، وحمّامات غسيل الأدمغة بأبشع الأفكار والصور،ولغة انحطاط سقيم عصورٍ عُرفت ـ بجدارةٍ تليق بنا وبها ـ بـ (عصور الإنحطاط) ،نقطع بالسؤال : ماذا حصل ؟!
لن أعود للسرديّة الحوادثيّة ـ الحدثيّة منذ إحراق ابن مدينة (سيدي بوزيد) التونسيّة ،الـ (بوعزيزي) نفسه ،وحتى اليوم ،مما يحفظ يوميّاته كلّ متابع ،بل سأتوقف ـ تأطيراً للموضوع ومحاولة مطابقة العرض وعنوانه ما أمكن ـ مع المسارالتركيّ في البارز من مواقفه المقتربة والمقاربة للحدث العربي ككلّ ،والذي تدرج مع الوقت في تمظهرات خضعت للعامل الجيوبوليتيكي ،والعلائقي بكل أصنافه ،وحتى المصالحي المحلّي والصغير ،فلقد بدأ ناصحاً بحذرٍ وضبابية (مع تونس) ، فناصحاً أخلاقياً وعظياً إيمانياً (مع مصرـ مناشدة آردوغان لمبارك : كلنا فانون ॥إلخ॥) ليتقدّم خطوة (مع ليبيا)وبانتهازيّة براغماتيّة مصالحيّة ،لاتشكّل عيباً في لغة السياسة ،وإنْ حملت كلّ ملامح العيب في لغة المواقف المبادئيّة بمعارضته الموقف الفرنسي التدخلي ،انتقاماً منه ،لمعارضة الأخيرانضمام تركيا للإتحاد الأوروبيّ ،ولعدم حصول الأتراك على ضمان مصالحهم الواسعة في ليبيا ،في المرحلة المحتملة لما بعد "القذافي" ،ليعود فيلتحق بالسياسة الأطلسية في ليبيا بعد الإعتراف الأطلسي بدور ومصالح تركيا بانعقاد مايسمّى بـ (مجموعة التنسيق ) بشأن ليبيا في اسطمبول،ليصل إلى مواقفه المندفعة أخيراً ،قبل لجمها المؤقت ،'''كما يبدو''' ،فيما يخص الجانب السوري من الحدث العربيّ ،المسمّى بـ (الثورة السوريّة) ।

وبالعودة للسؤال ماذا حصل ؟ وما الذي طرأ محفزاً للتركي دوافعه ،مفعِّلاًعوامل تبدلاته ؟
الجواب واضح يسير:هو الإعتراف الأطلسي للتركي بحصته من الكعكة الليبية ،جواب يستولد سؤال بالتداعي: أشراكة هي أم رشوة برسم الآتي ؟ !
هنا تصبح الإجابة سوداويّة ،إنْ لم تكن كارثية ،فالسياسة التركيّة نهلت ،وما زالت من ينبوع البراغماتيّة بلا ارتواء ،محركها في كل خطواتها مصالح الدولة التركيّة إقليمياً ودولياً ،وهذا حقّها على قاعدة أنّ الدول ليست "تكايا" ولا جمعيات خيريّة ،لكنّ المخيف في الأمر أنْ تصبح مصالح الدولة ـ كلّ دولة لا التركيّة فقط ـ في خدمة سياسة داخليّة شعبويّة تبحث عن صوت الناخب والأغلبيات ،بأيِّ وبكل ثمن ،حتى لو أصبح الثمن سياسة تدخليّة استقوائيّة ، تضرب عرض الحائط بكل المبادئ الناظمة للعلاقات الدولية ،والمواثيق المتفق على احترامها بين الجيران ، بطارئ دعاوى ضبابيّة التحديد ،كتهديد أمن الجار،وكالعامل الإنساني ،أوالجرائم ضدّ الإنسانيّة ،أوتهديد السلام الدولي ،إلى آخر المعزوفة التي نعيش ملحمتها الأخيرة على المسرح الليبيّ ،وقبلها على المسرح العراقي المقيم ،دون نسيان السودان والصومال ،والمسبحة تتكرر وتكر ...
ولئن كنت ،قبل سنتين ونيّف ،قد كتبت مشيداً بالسياسة التركيّة مترجمة بالموقف الآردوغاني في "دافوس" وبالحرف ،وبغض النظرعن الهدف التركي من موقفه ذاك ،سواء التحشيد الإنتخابي الدّاخلي وهذه لعبته "الديمقراطية" ،أو ممارسته الإبتزازية للأوروبي الصّاد له على باب الإتحاد الأوروبي ،وذلك حقّه السياسي في اللعب بكل أوراق القوة ،أو في إرادته "المشروعة" و"المفهومة" للعب دور إقليمي جيوبوليتيكي يليق بحجمه الذي يعتقده ،خارج الحلف الأطلسي ـ القيد ـ الذي يسلب منه أكثر مما يعطيه في ظلّ المتغيّرات الدوليّة المتسارعة ،والمشاريع المعدّة والمصرح بها بلا لبْس ،خاصة فيما يسمّى بـ (منطقة الشرق الأوسط )،كتبت وبالحرف:
((واليوم :حين ينتفض رئيس الوزراء التركيّ ،السيّد ( رجب طيّب أردوغان ) على همجيّة عصابة القتلة في الكيان الإرهابي الصهيوني الغاصب ،لا يجب فهم ذلك بتبسيط بدويٍّ بدائي،ولا بتسخيفٍ مفهوميٍّ ثأريّ ،أو بنرجسيةِ ذاتٍ متضخمة أعرابيّة ،بل بموقف رجل دولة مسؤول ، يرفض لغة الحكّام التُّبَّع ،الذين يبررون عدوان عصابة صهيون ،ويشرعنون جرائمها ،تبريراً للاشرعيتهم المغتصِبة للشرعيّة القوميّة لأمّة العرب ، نعم هذا الـ (أردوغان) ليس شريكاً في النظام اللاشرعي الغاصب للشرعيّة في وطن أمّة العرب ، هذا النظام الإقليمي (اللاعربي) ـ السايكسبيكوي ـ البلفوري ـ الصهيوني ـ الكامب ديفيدي ـ الوادي عرباوي ـ الأوسلوي ، الذي يرفع العقيرة بالخطر الإيراني ،ويرى الأمن القومي العربي متحققاً بالأساطيل الأمريكيّة ، بالإحتلال الأمريكي ـ الصهيوني ، بل ويشرعن الإغتصاب والإحتلال، ويشرحه بوقاحة صفيق موظّف ، وعلى لسان حاكم مصر،الحارس لمعبر رفح ،بأوامر صهيو ـ أمريكية ،هذا الـ (أردوغان )الذي يقول: لا يمكن السكوت عمن صمتوا إزاء ما حدث في غزة.. و يجب ان تأخذ حماس مكانها على الساحة الديمقراطية الفلسطينية) ،هل يمكن أنْ يرتقي التّبّع ،رغم جلالاتهم ،وفخاماتهم ،إلى بعض قامته ؟ بل إلى بعض البعض منها ؟ )).
تُرى ماذا أقول اليوم ؟! والجواب بلا تردد :
من ذات موقع المسؤوليّة المواطنيّة ،وصادق الإنتماء العربي ،وفوق ذلك من منطقٍ سياسيٍّ ملتزم وسليمٍ بالمطلق ،سأكرر قولي أعلاه لوتكرر ذات الموقف التركي ،وهو ما التزمته من احترامٍ للسياسة التركيّة في بداية اشتباكها (الدبلوماسي ـ القانوني ـ الإعلامي) مع الكيان الصهيوني ،العام الماضي ،في أعقاب القرصنة الصهيونيّة على اسطول الحريّة لكسر الحصار عن "غزّة " وارتكابها كالعادة مجزرتها على السفينة التركيّة " مافي مرمرة " ،قبل أنْ يخبو( الإشتباك) تدريجيّاً ،ليتحول إلى قائمة مطالب للتفاوض ،على شاكلة المفاوضات بين الكيان الصهيوني وسلطة " رام الله " ،وصولاً إلى الموقف التركي المشين من القافلة الثانيّة من اسطول الحريّة هذا العام !!!، حقيقة كم من الماء جرى في مجرى النهر خلال عام !!!.
واليوم ،ومع تصاعد المواقف المناوئة وبنبرةٍ عدوانيّة لاتخلو من وعيد للسياسة السوريّة ـ حتى الساعة ـ في أوساط ما يسمّى بـ (المجتمع الدولي) ،وتراجع بعض الأصدقاء إلى مواقف دعمٍ ليّنة ،بل غير بريئة وملتبسة ،وظهور اسطفافات تخرج من السّر إلى العلن بتناغمٍ أوركاستري صريح ،يصبح المشهد في السيناريو الأسود الكارثي متبلوراً بلا الحاجة حتى للتعديل ،فالأسبوع "المعطى" من مجلس الأمن قصير ،والتهويش الإعلامي إلى اشتداد ،ودوّامة العنف المجنون كما فِعْلُ إخماده إلى اشتداد ،فهل أصبح مسرح جريمة التدخل الأطلسي جاهزاً ؟ وطبعاً بتمويلٍ عربيٍّ سخيّ ،وهل تركيا هي الذراع الأطلسية ؟ خاصة بعد التغييرات في القيادة العسكرية التركية ،ربّما لمنع كلّ اعتراض على قرارٍ سياسيٍِ تدخليّ جاهز، وهل هنالك من إحياءٍ للتحالف الإستراتيجي "الصهيوني ـ التركي" مقرراً ترجمته العمليّة باعتماد " خط عرضٍ ما" في المجال الجويّ السوري ؟ ودائماً برعاية أمريكيّة ـ أطلسيّة ،وتمويلٍ تحت الطلب من وفرة العائدات البترودولاريّة لممالك وإمارات النفط والغاز .
إنّه السيناريو الأسود ،وهاوية الدمار،فلن تكون سوريّة لقمة سهلة القضم لطامع ،ولايسيرة الهضم لجائع ،وتفجيرها ـ لاقدّر الله ـ سيهلك الجميع ،لاسيصيبهم فقط بالشظايا ،ولن يكون الحليف الإيرانيّ على الرصيف ،ولا المقاومة الوطنية اللبنانية منتظرة شدّ الحبل على عنقها ،كما ولن تكون قواعد العدوان في مأمنٍ وفي كلّ المواقع ،ولن ينعم مغامر براغماتي بالأمان ،وخاصة مهندسوا السياسات التركيّة الجديدة المستجدّة وربابنة استراتيجيات بنيانها ،ولينتظر الإقليم ،كلّ الإقليم ،زلزالاً يطيح بالجميع ،حتى بمن يتصور أنّه من الثوابت والقواعد الممأسسة المؤسِسة ،إنّها تراجيديا اللعنة وملهاة الجنون ،والتي تثبت في كلّ حالاتها ومنها ما نوصفه بـ ـ تراجيديا اللعنة وملهاة الجنون ـ فضلاً عن سنين العسل السوري ـ التركي وكبيرطموحاتها الواقعيّة، تثبت وبلا جدالٍ أنّ العلاقات السورية ـ التركية وبالتداعي الحتمي تثبيت أسس الأمن القومي العربي لا يمكن أنْ تكون إلاّ مرتبطة مترابطة ،ولا خيار آخر ،تمامًا كترابط الفرات بمائه والجغرافيا بموقعها دون أنْ نُخيّر أونختار ،فهل سينتصر العقل والضمير؟ أمْ أنّنا كلنا إلى الهاوية ماضون ؟

ليست هناك تعليقات: